"تخيّل المستقبل": يوم الرئيس الأخير

21 مايو 2015
مشهد من العرض (تصوير: روبير أنريكه)
+ الخط -

تتناول مسرحية "تخيّل المستقبل" للفرقة المسرحية التشيلية "لا ري-سينتيدا" (La Re-sentida) اليوم الأخير في حياة الرئيس التشيلي السابق سلفادور اللندي. ورغم أن المخرج ماركو لاييرا وعناصر الفرقة من الشباب الذين ولدوا بعد عام 1973، السنة التي حدث فيها الانقلاب على حكومة اللندي، فإنهم يعودون إلى ذلك اليوم المفصلي في تاريخ تشيلي، والذي يسبق ولادتهم جميعاً، ليتحدّثوا عن حاضر تشيلي عام 2015.

استضاف مسرح "شاوبونه" هذا العرض مؤخّراً ضمن "المهرجان الدولي للدراما الجديدة"، لتكون برلين المحطة الأخيرة لهذه المسرحية في جولتها العالمية. وفعلاً، قدّمت الفرقة مقاربة مميزة ليوم اللندي الأخير، حين يجهز الرئيس نفسه لإلقاء آخر خطاب له، بينما تلتفّ مجموعة من الوزراء والمستشارين وأخصائيي العلاقات العامة حوله ويندلع الجنون.

تقدّم المسرحية ما لا نراه عادة في هذه المناسبات. يقوم الجميع بإصدار أوامرهم إلى الرئيس كي يحقق خطابه الوقع المطلوب ويظهر بطريقة تليق بالحدث وبشخصه. يمتد الجنون ليمسّ الرئيس نفسه الذي يظهر مغلوباً على أمره أمام اختصاصيّي الإعلام والعلاقات العامة. يختبئ تارة عندما يتعارك الوزراء في ما بينهم، ويمضي إلى النوم بعد أن أنهكته نصائح الجميع، ثم يظهر مرتدياً ألبسة رياضية، وفي النهاية ينتحر.

اللندي هو محور الحدث، ولكنه ليس الشخصية الأكثر حضوراً في هذه اللحظة التاريخية، إذ يبدو أن لكلٍ رأياً حول كيفية ظهور الرئيس على الشاشات ونبرته وكلماته. يبدو الرئيس كدمية تحرّكها اعتبارات الإعلام ووسائله، وفي سياق التحضير للخطاب الأخير تصبح المداخلات والمشاجرات الجانبية أكثر أهمية وحضوراً من الخطاب نفسه.

يرى عالم الأنثروبولوجيا البريطاني فيكتور تيرنر أن لحظات التحوّل والأزمات هي مساحة لحصول أي شيء وكل شيء، فهذه اللحظات مليئة باللامنطق والأخطاء والتوتر والانزياح.

اللحظة التاريخية التي تعود إليها فرقة "لا ري-سينتيدا" هي نموذج على ذلك. هناك رئيس يلقي خطبته المتلفزة الأخيرة، بينما الوزراء يتعاطون الكوكايين، ويتشاجرون في ما بينهم، إلى أن ينتهي العرض بإقدام اللندي على إطلاق النار على نفسه وتنتهي المسرحية عند هذه اللحظة.

تتعارض الآراء حول نهاية سلفادور اللندي وكيفية موته، ولكن أمام الجنون الذي تتبناه مسرحية "تخيل المستقبل" تصبح كيفية مقتل اللندي أمراً ثانوياً. كما أن مسألة تعارض المسرحية مع الحقيقة التاريخية ليست مهمة. ولكن يأتي فعل الانتحار هنا أو القتل لإخراج العرض من ورطة البعثرة التي يقترحها في تلك اللحظة التاريخية.

تسجل "تخيل المستقبل" موقفها من ضعف السياسيين وسخافة الإعلام، في لحظات مصيرية على مستوى الدول والشعوب. وتزيد الفرقة من جرعة الكوميديا وتحدّي أحد المنعطفات الحساسة في تاريخ تشيلي الحديث، لتصل إلى مرحلة استفزازية من الضحك والإرباك. يذهب الرئيس ليأخذ قسطاً من النوم بعد أن أعاد خطبته لعدة مرات من دون أن تعجب وزراءه.

وينتقل العرض إلى فواصل دعائية، فيظهر الممثلون بلباس البحر، ثم يقدّمون فاصلاً دعائياً آخر عن التسوّل. ينتقل الحديث عن حاجة طفل يتيم إلى الظفر بحياة أفضل. ينزل الممثلون إلى المسرح ويتسولون النقود، ويبذل الجميع كل ما يستطيعون من ذلّ أمام الجمهور كي يحصلوا على بعض النقود لأجل الطفل.

يستيقظ اللندي ويعود إلى مكانه أمام الكاميرا ليكمل خطابه التاريخي، ويعود الهرج من جديد. وأمام الاحتمالات التي تقدمها مسرحية "تخيل المستقبل"، ينتهي المخرج لاييرا إلى نتيجة تستدعي الموت واللاشيء. وبعد ما يزيد عن أربعين سنة لا ترى فرقة "لا ري-سينتيدا" إلا الموت كنتيجة لتلك اللحظة، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل في ما لو كانت العودة إلى الماضي كي نتخيّل المستقبل محصورة بالموت القاطع.

دلالات
المساهمون