رفضت مهرجانات ومنصّات كثيرة عرض الفيلم (Getty)
08 سبتمبر 2020
+ الخط -

في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2019، أرسل طبيب صيني يدعى لي وينليانغ، رسائل مقلقة إلى المسؤولين في مدينة ووهان، حول اشتباهه في عودة فيروس سارس القاتل من جديد. حينها، قوبلت رسائله بالتعنيف من رؤسائه وبالتهديد من قبل الشرطة. بعد مرور ستة أشهر فقط، كان العالم يشهد إصابة ما يقرب من 24 مليون شخص حول العالم بفيروس جديد من عائلة سارس، عرف باسم كورونا، أو كوفيد 19، وتسبب في وفاة ما يزيد عن 850 ألف إنسان حول العالم.
هذه القصة التي تقول الكثير، دفعت المخرج والفنان الصيني المعارض آي ويوي (63 عاماً) إلى الاشتغال من منفاه الأوروبي على فيلم وثائقي، هو الأول من نوعه، عن فيروس كورونا، ليقدم لنا صورة مروعة لمقاربة دولته الديكتاتورية للفيروس. صحيح أن المخرج والفنان المعروف دولياً لم يقع في فخ الإشارة إلى الطرف المذنب طوال مدة الفيلم التي وصلت إلى الساعتين، لكنه أظهر بشكل لا جدال فيه قدرة الصين التي تنتهج مبدأ "المراقبة الشمولية" لجميع مواطنيها، على جعل مواطنيها راضخين، لكنها أثبتت أيضاً أنها كدولة أضعف من أن تحميهم من فيروس قاتل مثل كورونا.

التتويج
وفقًا للنص التعريفي لفيلم Coronation على منصة Vimeo، والذي يمكننا ترجمته هنا بـ"التتويج"، تم التقاط المقاطع المصورة التي تكون منها الفيلم من قبل أفراد عاديين داخل الصين، إلى جانب العديد من الصور التي التقطت بواسطة طائرات من دون طيار، فأظهرت لنا شوارع وساحات ووهان الفارغة من سكانها، والقطارات الضخمة وهي ثابتة في مكانها، والطرق السريعة فارغة من السيارات، كأن المدينة صارت مهجورة لا تسكنها إلا الأشباح.
لذلك، يشير المخرج في تعريفه بالفيلم بالجهد الكبير الذي بذله معاونوه داخل الصين، والذين "عرّضوا حياتهم للخطر" من أجل التقاط هذه الصور الحية، قائلاً إن من عاونوه ومدوه باللقطات الحقيقية من داخل المستشفيات ومراكز العزل الصحي التي أنشئت على عجل "قاموا بعمل شجاع"، وهذا صحيح؛ فالمخرج نفسه الذي تعود في مجمل أعماله المثيرة للجدل أن يقف دائماً في صف الدفاع عن الحريات، قرر الفرار من الصين بسبب نشاطات المعارضة، فهو ناقد صريح للحكومة الصينية، وسبق لـ آي ويوي تقديم سلسلة أعمال شيّدها من لعبة Lego لأشخاص تم إسكاتهم أو سجنهم أو نفيهم بسبب معتقداتهم أو انتماءاتهم، وهو نفسه سُجن لمدة 81 يوماً عام 2011 ومُنع من السفر خارج الصين، إلى أن استطاع عام 2015 الحصول على جواز سفر ليغادر بلده نهائياً لاجئاً سياسياً إلى العاصمة الألمانية برلين، ومنها إلى بريطانيا حيث يعمل ويعيش حالياً.


76 يوماً من العزلة
خلال ساعتين، يقدم لنا آي ويوي الحياة في ووهان خلال 76 يوماً من عزلتها عن العالم. وبدلاً من اختيار طريقة "استجداء الشفقة" التي ينتهجها عادة المخرجون الوثائقيون في هذه النوعية من الأفلام، قرر المخرج المعارض تقديم مزيج مدهش من الشهادات التي تم تصويرها بواسطة الهواتف المحمولة في إطار من الرصانة والتواضع، فيعرض لنا بشكل محايد الرواية الرسمية التي تروج لها السلطات الصينية عن الفيروس القاتل، إلى جانب الرواية المضادة التي تسعى بكين لإخفائها.
تبدأ أحداث الوثائقي في 23 يناير/كانون الثاني، اليوم الذي دخلت فيه ووهان حالة إغلاق تام عن العالم، لينتهي في 8 إبريل/نيسان، حين تم رفع الإغلاق، كل ذلك من خلال تتبع حياة خمس شخصيات رئيسية، يصارعون القيود الصارمة المفروضة عليهم وعلى كامل تحركاتهم من قبل الحكومة الصينية، اختارهم المخرج من بين سكان المدينة البالغ عددهم 11 مليوناً.
وفي حين رفض المخرج الطليعي الكشف عن تفاصيل التصوير أو كيفية الحصول على اللقطات الحية من داخل ووهان، لكي لا يعرّض حياة معاونيه الذين عملوا معه للخطر، إلا أن أحداث الفيلم تبدأ ليلة 23 يناير بتتبع رجل وزوجته عائدين من عطلة رأس السنة الصينية الجديدة في مقاطعة أجدادهم إلى ووهان حيث يعملان. يقود الزوج السيارة في شوارع جرداء مغطاة بالثلوج، إلى أن يتوقّفا في محطة للتزود بالوقود، فيجدا عاملاً مصاباً بالحمى يحاول قياس درجة حرارته وهو يرتجف بلا جدوى. وفي غضون دقائق، تتوقف سيارة شرطة لتفحص أوراق الزوجين، وبعد بضع أسئلة يُسمح لهما بمتابعة رحلتهما، وهو الإجراء الذي تم إنجازه بأقصى درجات الهدوء والكفاءة.

إعلام وحريات
التحديثات الحية

دولة الحزب الواحد
كانت بكين حريصة على تسليط الضوء على تعاملها الفعال مع الأزمة، ويظهر الوثائقي أن دولة الحزب الواحد صنعت بالفعل إنجازاً كبيراً في مجال الصحة العامة بحلول نهاية يناير، وهو ما يستعرضه الشريط بلقطات تشبه الكولاج، فيرصد وصول الفرق الطبية من جميع أنحاء الصين إلى المدينة بعد عزلها عن العالم، ونسمع هتافات فرق الاستقبال المقنعة في المطار، فيما نشاهد لاحقاً الرجال الآليين الذين أنزلتهم الحكومة لتنظيف الشوارع والأماكن العامة وداخل المستشفيات التي تم بناؤها في غضون أسبوعين، فيما تسير الكاميرا خلف طبيب يدخل من الباب الأمامي لمستشفى ميداني تم تشييده للتو، لما يقرب من أربع دقائق في لقطة واحدة، حتى وصل أخيراً إلى باب الفحص النهائي لمرضى كورونا.
لكن الفيلم يظهر في نصفه الثاني القبضة الحديدية التي تتعامل بها الصين مع أهالي ضحايا الفيروس، حين نرى ابناً يحاول جمع رماد والده، ضحية كورونا، بمفرده، بعد أن تركه المسؤولون عند تسليمه الرفات وحده. كما تطالعنا أيضاً حكاية عامل بناء يدعى مينغ ليانغ، تم إحضاره إلى ووهان لبناء المستشفيات العاجلة، لكنه مُنع بعد ذلك من العودة إلى مقاطعته الأصلية، ما تسبب في إقدامه على الانتحار لاحقاً.

لا يعرض الوثائقي الحياة اليومية فقط لمن يتتبعهم، بل يتيح لهم أيضاً التعبير عن إحباطهم وغضبهم من حكومة تخون وتكذب وتتلاعب، فيروي عامل البناء نضاله من أجل الحصول على وثائق تسمح له بمغادرة ووهان، فيما يحاول الآخرون الانضمام عبثاً إلى أحبائهم للحصول على القليل من الراحة أو تبادل الكلمات الأخيرة أو حتى الحداد، ما يدفع الرجل الذي منعته الحكومة الصينية من استعادة رماد والده إلى أن يقول: "آليات الحكومة صارمة جداً، خاصة إذا كان عليك مواجهتها بمفردك".
يُعتبر الفيلم أول عمل وثائقي طويل عن فيروس كورونا، ويمكننا اعتباره عملاً سريعاً تم إنتاجه وتحريره خلال الأشهر القليلة الماضية، وعلى الرغم من أن هذا التسرع يعني التضحية ببعض الدقة في الصورة النهائية التي خرج عليها الفيلم، إلا أنه من المدهش أن نرى في ثناياه الخطوط العريضة التي تشكل بصمة آي ويوي الفنية، وإن كانت ليست في اكتمال أعماله السابقة، وعلى رأسها فيلمه اللافت "Human Flow" في 2017، والذي رصد أزمة اللاجئين وتأثيرها الغائر على الإنسان في 23 دولة، من بينها أفغانستان وفرنسا واليونان وألمانيا والعراق، حيث أجبر أكثر من 65 مليون شخص حول العالم على ترك بلادهم هرباً من المجاعات وتغير المناخ والحروب، في أكبر حركة نزوح يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية.

من هو آي ويوي؟
منذ أن برز على الصعيدين الوطني والدولي أواخر تسعينيات القرن الماضي، انتقد ويوي المؤسسة السياسية الصينية واستفزها من خلال أعماله الجريئة المنفذة عبر الفيديو والوسائط المتعددة، فتناول موضوعات الفساد واعتداء الدولة على الحريات الشخصية والهيمنة المرعبة التي يمارسها الحزب الشيوعي الصيني على الشعب.
في عام 2003، وبينما كان لا يزال في الصين، أنتج ويوي فيلماً قصيراً مدته 26 دقيقة بعنوان "كل واشرب وكن مرحاً"، حول تفشي فيروس سارس الذي انطلق من مدينة قوانغدونغ جنوب الصين، وقد أثار تعامل بكين مع تفشي مرض السارس حينها انتقادات دولية كبيرة، وجلب على المخرج عداء السلطة الصينية بكاملها.
في 21 أغسطس/آب الماضي، اضطر ويوي إلى إتاحة فيلمه الوثائقي الجديد Coronation دولياً على خدمة البث المباشر على منصتي Vimeo on Demand وAlamo on Demand في الولايات المتحدة. وأعلن المخرج في عدد من الصحف الدولية عن أنه كان يأمل في عرض الوثائقي في أحد المهرجانات السينمائية البارزة، لكن ثلاثة مهرجانات مهمة هي: نيويورك وتورنتو والبندقية، رفضت عرض الفيلم بعد الإعراب عن الاهتمام به في البداية، كما أكد ويوي أيضاً أن Amazon وNetflix رفضتا عرض الفيلم، وبرر هذا الرفض بأن هذه المهرجانات والشركات رفضت الفيلم من أجل الحفاظ على علاقاتها التجارية في الصين. 

المساهمون