"تاريخ الجسد": مقارباتٌ تمتدّ إلى أربعين ألف سنة

21 اغسطس 2018
قادر عطية/ الجزائر
+ الخط -

يبحث كتاب "تاريخ الجسد: أوروبا من العصر الحجري القديم إلى المستقبل" (من تحرير جون روب من "جامعة كمبرديج" وأوليفر هاريس من "جامعة ليستر") في طريقة فهم جسد الإنسان في أوروبا وكيفية التعامل معه في الحياة والفن والموت على مدى السنوات الأربعين ألفاً الماضية، مُركّزاً على أبرز المحطّات التي شهدت تغيّرات في طريقة الفهم تلك.

ينطلق العمل، الذي صدرت ترجمتُه العربية هذا العام عن "دار الرافدين" بإنجاز جمال شرف، من العصر الحجري القديم، وصولاً إلى العصور الحديثة والمعاصرة. على أن الدراسة، التي شارك فيها فريق من الباحثين من تخصّصات مختلفة، لا تُقارب الجسد كبنية بيولوجية ثابتة ومستمرّة عبر التاريخ، بل باعتباره في صلب التاريخ، أو أنه التاريخ نفسه. هكذا، تتجاوز تفحُّص دور الظروف التاريخية في خلق أنواع معيّنة من الأجساد، إلى دور الأخيرة في إنتاج بعض أشكال التاريخ.

يُحاول المؤلّفون، بدايةً، تحديد مفهوم "عالم الجسد"، من خلال جولة أنثروبولوجية على بعض الممارسات البشرية في عددٍ من الحضارات والقبائل والتجمّعات الثقافية البدائية، أو المعاصرة، ذات الخصوصية الثقافية؛ انطلاقاً من مفاهيم مثل: الممارسة الاجتماعية، والسلطة، والطبقة، والجندر، مع إضاءة على أبرز تيارَين في الأدبيات الخاصة بالجسد: المدرسة الطبيعية والمدرسة البنائية.

تبدأ الدراسة من العصر الحجري القديم، مستندةً إلى ثلاثة عوامل أساسية تُسهم في تشكيل فهمنا لتاريخ الجسد في تلك المرحلة: الموت وممارسات الدفن المرتبطة بطريقة رؤية الجسد والتعامل معه، وابتكار الأدوات ومنها أدوات الزينة، ثمّ ظهور الفنون، وخصوصاً التماثيل؛ سواءً التي تُجسّد الإنسان أو الحيوان أو تمزج بينهما. في هذه المرحلة أيضاً، تتشكّل أولى بوادر الزراعة التي تُعدّ محوراً أساسياً لدراسة التاريخ الإنساني، وبالتالي الجسد.

تتكرّر تلك العناصر في كلّ المراحل التاريخية (وبالتالي في جميع فصول الكتاب)، مع اعتماد مفهومٍ شامل لكل مرحلة. تشمل الفترة الإغريقية، التي حملت عنوان "الجسد والسياسة"، موضوعات مثل: دور النحت الإغريقي في فهم الإنسانية للجسد، والعبودية التي ميّزت الحضارة اليونانية، وأبقراط وإسهامات الطب، والجسد الهزلي في المسرح اليوناني.

يتطرّق الكتاب، أيضاً، إلى نظرة الديانة المسيحية إلى الجسد خلال العصور الوسطى التي شهدت تنامي مفهوم الروح، وبالتالي حدوث انقسام بين الروحي والجسدي، والذكوري والأنثوي. كما يتناول مواضيع؛ مثل: مرض الجذام وتأثيره على تاريخ الإنسانية، والموسيقى والرقص اللذين بلورا رؤىً جديدة حول الجسد، إضافةً إلى فكرة "القيامة" التي دفعت إلى التساؤل: هل يخصّ البعثُ الروح فقط، أم يشمل البدن؟

وفي "عصر النهضة" وما تلاه، يتناول العمل تأثير العلوم، خصوصاً علم التشريح، على الفكر الإنساني إزاء الجسد؛ موضحّاً أن "سلطة العقل" أحدثت انقلاباً في كثيرٍ من المفاهيم والسلوكات؛ من بينها استعمال التأديب الجسدي كبديلٍ عن العقاب الجسدي الذي كان سائداً حسب فوكو. لكن المرحلة الاستعمارية دفعت إلى أشكال أخرى من الدراسات؛ مثل دراسات الأعراق، أي جسد الآخر الموجود خلف البحار.

وبالوصول إلى "عصر التكنولوجيا"، يضيء الكتاب المتغيّرات التي حملها التطوّر التقني إلى فهم عوالم الجسد، مثل الأشعة السينية والاستنساخ والعلاقة بالآلة.

على خلاف مقاربة الجسد من منطلقاتٍ فلسفية أو شعرية التي ظهرت في أعمالٍ كثيرة سابقة، اعتمدت الدراسة لغةً علمية وأكاديمية أضفت عليها شيئاً من الدقّة، كما اعتمدت على كمٍّ كبيرٍ من الكتابات حول الجسد من مختلف التخصّصات؛ كعلم الآثار والتاريخ وتاريخ الفن والأدب القديم والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع. وإن كانت الكثير من الدراسات التي تناولت الموضوع قد نالت أهميّة، فإن قليلاً منها، فقط، يُقدّم فهماً شاملاً للجسد كما يفعل هذا الكتاب.

المساهمون