"بين بحرين": تواضع سينمائيّ

20 ديسمبر 2019
فاطمة عادل: عفوية أداء وعيش (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
يُقارب "بين بحرين"، للمصري أنس طلبة (2018، 88 دقيقة) ـ المُشارك في برنامج الأفلام الروائية الطويلة، في الدورة الـ10 (5 - 12 ديسمبر/ كانون الأول 2019) لـ"مهرجان أفلام حقوق الإنسان" في عمّان (الأردن) ـ مسألة تمسّ جوهر الثقافة الشعبية المصرية، وترتكز على الأخلاقيّ والاجتماعيّ والتربويّ. يندرج في إطار سينما الإنتاج المستقلّ، غير المعنيّة بممثلين نجومٍ، أو أقلّه بممثلين معروفين، وإنْ على نطاق ضيّق. يلتقط حالة جماعية، راوياً شيئاً من تفاصيلها عبر حكاية فردية، مع أنّ الحالة/ الحكاية تُشكِّل نواة درامية لأفلام مصرية مختلفة، وإنْ يكن عددها قليلاً للغاية، كالروائي الطويل "دنيا" (2005) للّبنانية جوسلين صعب (1948 ـ 2019)، والوثائقي "الجمعية" (2018) للّبنانية أيضاً ريم صالح (1979).

الاختلاف بين العناوين الـ3 تلك واضح وأساسي، رغم أنّ الموضوع واحد: الختان. المعالجات متشعّبة، إذْ يتّخذ كلّ فيلم نمطاً خاصاً به، وبهموم سينمائية متعلّقة بكلّ مخرج. فـ"دنيا" معنيّ بسرد حكاية شابّة تهوى الرقص، وتواجه تحدّيات جمّة لاستعادة جسدها وذاكرتها من قبضة مجتمع رافضٍ للرقص الشرقي، ولعلاقة المرأة بجسدها، ومن قبضة المنع والرقابة أيضاً. و"الجمعية" يتوغّل في أحوال أناسٍ مقيمين في "حي روض الفرج"، بين الفقر وعيش الحياة رغم شدائد ومصاعب وأهوال. بينما يروي "بين بحرين" مأساة مفتوحة على سلوكٍ وعلاقاتٍ في بيئة فقيرة.

وإذْ يغوص فيلما جوسلين صعب وريم صالح في مواضيع موازية لسؤال الختان، في بيئة مرتبكة تطرح تساؤلات عن الذات والحرية الفردية والوعي والعيش والمواجهات، فإنّ فيلم أنس طلبة يحصر نصّه الأساسي بالختان نفسه، وبالتأثيرات التي يصنعها على بيئة مرتبكة، هي أيضاً، لشدّة بؤسها وتمزّقاتها وفقرها وجهلها، رغم بروز أناسٍ ذوي وعي معرفي، يجتهدون للتغيير الجذري، فيصطدمون بتحجّر وانغلاق وتسلّط، من دون أن يؤدّي اصطدامهم هذا إلى تراجع أو انكفاء، إذْ يحرّضهم على مزيد من المثابرة والتحدّي.

هناك ملاحظة تتعلّق بشخصيتين اثنتين، تحملان إيجابيّاتٍ يحتاجها الاجتماع المصري حالياً، أو تعكسان ما "يُراد" لسلطةٍ ما أنْ تُروِّج له، بفضل تلك الإيجابيات: ضابط الشرطة، المُصرّ على معاقبة من تسبَّب بوفاة الصبيّة صغيرة السنّ، أثناء إجرائه عملية ختان لها بموافقة والدها وتشجيع جدّتها على ذلك؛ والشاب المتديّن، الذي يُدعى شيخ إسلام، المنفتح لامتلاكه وعياً معرفياً يجعله متسامحاً وشغوفاً بالحياة والحبّ، هو غير المتردّد عن مشاركة صديقه لعبة "بلاي ستايشن". لاسمه (شيخ إسلام) دلالة كبيرة، تؤشّر إلى أنّ جيلاً جديداً من المسلمين يمتلك وعياً وانفتاحاً، وعليه هو (الجيل نفسه)، بتديّنه "الصحيح" و"الهادئ" و"الفهيم"، أنْ يصنع المستقبل.

ضابط الشرطة يريد عدلاً، وإنْ يتطلّب منه هذا مواجهةَ ثقافةٍ شعبية عميقة الجذور في البيئات الفقيرة؛ ويحرص على معاقبة المسؤول عن فعلٍ يبدأ بتطبيق شيء من تلك الثقافة، وينتهي بجُرمٍ. قاسٍ هو وصعب المراس مع متّهمين أو عارفين بأمورٍ يُصرّون على إخفائها عنه. لكنّه متسامح وغفور ومحبّ مع آخرين، يراهم ضحايا اجتماع وتربية وسلطات. أما شيخ إسلام، فيُريد تغييراً فعلياً في إدارة شؤون العبادة والصلاة، فإمام الجامع عجوز غير متردّد عن الشتيمة والتقريع، وعن سوء عملٍ. لكن التغيير المُراد يُصنع بهدوء وروية، قبل تدخّل الجهة الرسمية، المعنيّة بتعيين إمام جديد للجامع، لحسم الموقف.



شخصيتان إيجابيتان في لحظة مصيرية تعيشها مصر، في ظلّ بطشٍ سلطوي، للأمن فيه دورٌ كبير، وتسلّط ديني متشدّد، يُراد للجيل الشاب المنفتح والواعي والمثقف والمتديّن أنْ يُواجهه.

إليهما، هناك زهرة التي تُقيم، مع زوجها حسن وابنتيها الاثنتين، في منزل والدتها، في "جزيرة الدهب". المنطقة فقيرة. الناس مُتعَبون، لكن بعضهم مرح ومتفائل ومحبّ للخير والتعاون والمساعدة. المنزل ضيّق على عائلةٍ كهذه. الطيبة والضحك والعلاقات الجميلة، رغم "نَكَد" الجدّة، سمات أساسية، قبل مُصيبة الموت التي تشقّ العائلة، وتُغرِق الجميع في انفعالات قاسية، بعضها تصفية حساب مع الذات، وبعضها الآخر اغتسال من ارتباك وضياع وتسلّط. تريد الجدّة تنفيذ قواعد مفروضة عليها بحكم تربية غير واعية وغير متعلّمة وغير صحّية، لكنها جزء أساسي من عيشٍ وسلوك. تحرّض الأب على تحقيق نمط تعتاده الجدّة، كما يعتاده من هم مثلها في بيئة كتلك. تُرتَّب الأمور لتنفيذ المبتغى، بعد "إبعاد" زهرة عن المنزل. تفشل العملية. تفقد العائلة الصغيرة الابنة البكر. ينهار كلّ شيء. يحصل صدام وانفصال. الأب "يهرب" إلى عمله خارج المكان هذا، لكنه يريد استعادة عائلته المُصابة بالفقدان. لن يمارس ضغطاً، ولن يكون عدائياً، ولن يخرج من طيبته ورقّته. يعرف غضب زوجته ويشعر به ويتحمّل تبعاته، فهو يُدرك خطأه، والخطأ ثقيل عليه. تُصاب الجدّة بإحباط. النهاية "إيجابية"، وإنْ بواقعية صادقة، إذْ لن يلتئم الجرح، ولن يُشفى أحد من ألمه، وسيكون التسامح حاضراً، لكن الفراق بين الزوجين حاصلٌ.

آخرون يعانون أيضاً أحوالاً وضغوطاً. الطبيبة أمل تعاند في مهنتها وبيئتها، كي تصنع فَرْقاً. والدها الأرمل طيب ورقيق ودافئ ومحبّ. منفتح هو. يروي لابنته رفضه أنْ يكون حاجزاً أمام زوجة تعمل. يزداد حبّه واشتياقه لها، لأنّ العمل مُضن، والوقت غير ملائم للقاءات هادئة بينهما دائماً، قبل حلول الموت، لكنه موافق على هذا. يكون داعماً لابنته الساعية إلى علمٍ ومعرفة واختصاص. ضابط الشرطة يريد علاقة بأمل، فهو معجب بها، وإنْ يُخطئ بقولٍ تقليدي ومحافظ ("كوني في المنزل معزّزة مُكرّمة"، بينما هي تطمح إلى مزيد من علمٍ ومعرفة وشهادات وعمل)، قبل تراجعه عنه، فالحبّ ربما يكون أقوى من أفكارٍ بائدة.

سياق "بين بحرين" عادي. التمثيل إجمالاً أقرب إلى عفوية أداء وبساطة عيش. الاشتغالات الفنية والتقنية متلائمة وسلاسة سرد ومعاينة. ففيلم أنس طلبة شهادة سينمائية متواضعة عن مأساة فاعلة في مجتمعٍ، يعاني أهوالَ موروثاتٍ وراهنٍ في آن واحد.
دلالات
المساهمون