"بغل" إيستوود: تسديد ركلة سينمائية

12 ابريل 2019
كلينت إيستوود مخرجًا وممثلًا في "البغل" (فيسبوك)
+ الخط -
العجوز فلاّح مأزوم، يُغيّر مهنته مُجبرًا، لأن الـ"إنترنت" يُدمّر مصدر رزقه. في "البغل" (2019)، يعرض كلينت إيستوود (المخرج والممثل) الوضع والأزمة والتهديد في 8 دقائق. يُقدّم شخصياته، ويتناول التفكّك العائلي، ويطرح فرضية أنّ "هناك دراما في كلّ زواج". لا توجد مقدّمة منطقية أوضح من هذه. وضع أول، تَلتْه اختبارات لمدى قدرة الفلاّح على الصمود في مهنته الجديدة. نظرًا إلى عمره، هناك خطة واحدة متاحة. ينبع التوتر الدرامي من انعدام البدائل.

هذا على المستوى الشخصي. أما على مستوى اللحظات التاريخية الدالّة، فإنّ دولة الرفاهية منتهية، وعلى الأفراد أن يعملوا حتى سنّ متأخّرة جدًا. النتيجة؟ فلاّح أميركي قحّ يخدم مكسيكيّين يُضرّون وطنه. أيُّ عار مثل هذا لعسكري سابق؟ إنه مجبر على ارتكاب جريمة، والمُشاهد يتعاطف معه لكونه عجوزًا.
في الشريط الدعائيّ للفيلم، الذي يُعطي فكرة عن منطق السرد فيه، يُقدِّم العجوز خدمة، ويحصل على جائزة غير متوقّعة. يتوقّف لفحص نوع الخدمة التي يقدّمها، فهو يجهل ما يحمله. الجهل ظلام. لذلك، كانت الكاميرا في صندوق السيارة. حين ينفتح الصندوق، يصل الضوء إلى اللقطة، والفهم إلى ذهن البطل. الفهم والإفهام في السرد فعل عسير.


عرف العجوز السر. اطمأن. لكن شرطيًا وقف خلفه فجأة. قَلق. تصرّف بهدوء، وانتظر معجزة. نبح كلب الشرطي، فعاد الشرطي إلى سيارته. اطمأن العجوز. فتح الشرطي باب سيارته، فقصد الكلبُ العجوزَ. الكارثة قادمة. قلق.
انتهى الشريط الدعائي، الذي شاهده الملايين وهُمْ متشوّقون إلى معرفة كيف تعامل العجوز مع الكلب الشمّام، المدرَّب على كشف الأسرار. بفضل هذه الأسرار، يُعرض "البغل" في الصالات وليس على شاشة "نتفليكس". في هذا الشريط، حبكة واضحة. هناك فاعل يستخدم الحيلة للحصول على شيء يرغب فيه من خصم ينصب له كمينًا. في كلّ كمين حيلة. باستمرار، تتولّد مخاطر غير متوقَّعة في طريق البطل. هدف الحبكة توريط الشخصيات في أزمات خطرة، كي ينكشف معدنها، ويتغيّر مسارها. هذا يجعل السرد مُشبعًا بأسرار صغيرة، ما أن تنكشف تباعًا حتى تُزرع أسرارٌ جديدة في طريق إدراك المُشاهد. هكذا يقدّم المخرج، بالتقسيط، معلومات دقيقة، تسمح للمُشاهد فهم موقف واتّخاذه.
هناك دائمًا ربط بصري أو لفظي بين المَشَاهد. لذلك، يُمسك المخرج المُشاهد من يده وعينيه، ليُريه المَشاهد بدقّة. طول الفيلم، يعطي المخرج الأولوية المطلقة للحبكة الرئيسية، لذلك لا يتيه المُشاهد. الحبكة "تَتَابعٌ مُفصَّل لارتدادات الحكاية، مازجة سلسلة النزاعات والحواجز ووسائل استخدام الأشخاص من أجل تخطّيهم" ("معجم الأسلوبية"، كاتي ويلز). الهزّة الأولى في حياة البطل اقتصادية، تترتّب عنها ارتدادات اجتماعية تُعرّي ماضي البطل، وترسم شكل تعامله مع أفراد أسرته.

يُطبّق كلينت إيستوود السرد الخطي على أصوله. حدثٌ يتبعه حدث. كلّ حوار يدفع بالحدث إلى الأمام. يعرف المخرج أن المُشاهد، منذ اللقطة الأولى، يريد أفعالاً بتفاصيل مُدهشة، لأنها وقائع متفرّدة، أي أنها لم تُشاهَد من قبل. وقائع تخبّر عن الشخصية، وتُبرز مرورَ الزمن، وتُبيِّن بصريًا كيف أثّرت على نفسية البطل.

مجدّدًا، يقف كلينت إيستوود خلف الكاميرا وأمامها. يبلغ درجة نضج، تُصعِّب إدراك أسرار أسلوبه في الإخراج. تبدو القصّة كأنها تروي نفسها من دون بروز عمل الوسيط السينمائي: الكاميرا. كما في مقابلات يُديرها حكّام محترفون. يكاد الجمهور لا يُلاحظ وجود الحَكم. في"البغل"، يكاد لا يُلاحظ وجود مخرج خلف الكاميرا. مخرج يهمّه المحتوى الروائي العميق لا الأسلبة، فيُطبِّق بذلك نظرية أورسن ويلز في الإخراج: "فسّرْ الشخصيات".



ما معنى تفسير الشخصيات؟ دفعها إلى الانكشاف والتعريف بنفسها في كلّ اختبار حياتي، أمام النظرات القاسية للآخرين. في النهاية، تتمكّن الشخصية من تصنيف تجاربها. هذا ما يفعله الفلاّح العجوز، الذي يقوم بنقدٍ ذاتي مرير، وهو يدين نفسه: مجرّد بغل، وزوج وأب فاشل. يخرج بخلاصة فات أوانها: العائلة مهمّة، والزمن لا يُشترى.
لتعميق تفسير شخصية بطله البغل، يُحيل المخرج، منذ عنوان الفيلم، على حكايات شعبية عمَّرت آلاف السنين، وتفهّمتها الشعوب كلّها. للبغل سمعة سيئة في السرد القديم وفي صحافة اليوم. في شمال المغرب مثلاً، توصف النساء المهرِّبات بـ"البغلات". هذا يستفزّ المنظّمات الحقوقية.
من أين ينبع الاستفزاز؟ من كون البغل وغدًا. في الثمانين من عمره، يستمتع برفقة الفتيات. لا يحدث شيءٌ، لكنه يستمتع بدبيب الحواس. البغل شخصية مركّبة، لا يكتشف المُشاهد حقيقتها بسهولة. يعرف العجوز البغل كيف يشُلّ الكلب الشمّام. لا أحد يحبّ البغال. لكن المشاهدين يحبّون الأفلام التي تحكي سير البغال.
كلّ سارد يفهم قوانين الحكي يُنتج سردًا ممتعًا مشتركًا بين البشر جميعهم. للمخرج معرفة سابقة بالبغال، فهو ممثِّل في "بغلان للأخت سارة" (1970) لدون سيغل (Sierra Torride)، عن راهبة عاهرة ومُقاوِمة ومتنكّرة. قوانين السرد مدروسة ومعلومة، ولم يخترعها السيناريست. من يعرفها ويملك موهبة السرد، يعرف كيف يبني حبكات ذات أفق مفتوح، تُفهَم بصريًا، بغض النظر عن لغة الحوار.

مرفقًا بموسيقى تصويرية للّيل وأخرى للنّهار (أرتورو ساندوفال)، يعبر البغل الحواجز، ويتخطّى الصعاب، ويصل سالمًا. كلّما يتحسّن وضعه المادي، يصير الـ"كادر" أكبر، ووجهه أقرب إلى المُشاهد. يصير أقرب إلى الضابط الذكي (برادلي كوبر)، الذي يطارده من دون أن يكتشف جرمه، لأن البغل يُتقن التظاهر بالبراءة. لهذا سوابق في وعي المُشاهد، فالبغل الذي يشعر بتهديد الذئب، يتظاهر بأنه يعرج، وحين يسأله الذئب "ما بك؟"، يُجيب "أصابتني شوكة في قدمي، أريد انتزاعها". ينتقل الذئب إلى خلف البغل كي ينزع الشوكة، وهذا يُتيح للبغل فرصة تسديد ركلة عليه.
دلالات
المساهمون