"بعد ما يموت الإله"!

31 مارس 2019
+ الخط -
في مسرح الجامعة كان يقف متقعقعاً ينفخ صدره بكل كبرياء لكي يؤدى دوره في المسرحية السنوية التي تقام احتفالا بتخرّج دفعة جديدة، رسم على وجهه ملامح تشعرك بأنه البطل، وكأنه أُبهة المسرحية أو مايسترو الفرقة الذي يضبط إيقاعها. لكن الغريب فى الأمر هو صمته الدائم وتصرّفه بشكل عشوائي كالهارب من السرايا الصفراء، حتى عرفت أنه "كومبارس".. يلقبونه بـ"خليل كومبارس".

مضت عليه أربع سنوات وهو لا يزال فى عامه الدراسي الثاني بكلية التجارة، حتى زهد التعليم والمتعلمين، فجاهد نفسه طواعية وتنازل عن بعض كبريائه وانصرف إلى الفن والتمثيل.. "الفن لازم نطوره، لأنه أصبح موضة قديمة يا أستاذ"، هذه هي الجملة الذى يتخذها خليل على لسانه شعاراً، فاتجه إلى مسرح الجامعة الذي يحمل قنابل موقوتة من المواهب المدفونة، إما أن تنفجر هذه القنابل فتذهب في مهب الريح، أو تبقى مدفونة حتى تختنق، وكلا الأمرين جميل..!

لكنه فشل أيضا في التمثيل وأصبح "خليل كومبارس" مادة للتهكم والسخرية، وارتضى لنفسه أن يظل هكذا، حتى اشتعلت في رأسه فكرة، وهي أن يبدأ رحلته الأدبية ويشق طريقه في مجال الكتابة والأدب، لأن "خليل كومبارس"، كما تعرف، لازم يضع بصمته في كل شيء.. "الأدب لازم نطوره يا أستاذ، لابد نطوره وإلا يبقى قلة أدب.. هعهعها".


فبدأ يكتب الشعر ويردده على مسامع المارة، فاستطاع أن يفرض نفسه على أنصاف المثقفين بشعره السياسى المتحزلق، وأحكم قيده على الهائمين والمحبين وذوي المراهقة الفكرية، حتى استطاع أن تكون له طبقة عريضة من المعجبين الذين يرددون شعره في مراحيض الجامعة.

لم يكتف خليل بقرّائه ممن لهم ذوق رفيع في قراءة الشعر الوضيع، فيصيحون مدحاً عندما يرمي عليهم حفنة من الكلمات ذات القافية، حتى وإن كانت بلا معنى، فقرر أن يبدأ حياته كروائي ليجمع حوله المزيد منهم بمبدأ: "البحر يحب الزيادة".

صدمتي الأولى عندما التقيت به في معرض القاهرة الدولي للكتاب وقد أصدر روايته الأولى وهي من أدب الرعب، ذلك النوع المنتشر أخيراً في الأسواق. وصدمتي الثانية عندما وجدت حوله الكثير من المعجبين، فهذا يدعوه إلى صورة، وذلك يتنسك من أجل توقيع. وصدمتي الأخيرة حينما قررت قراءة روايته وجدتها رواية من الألف إلى الياء بالعامية البحتة والألفاظ واللغة التي تثير أعضاءك، لا تثير ذهنك أبدا، وكأنها رواية رعب جنسية، والأسلوب خال من أي لمحة أدبية ولا يقدم فكرة جديدة.

التفكير ينهش عقلي، وتضرب رأسي عصا الحيرة، فتفتش عن أسئلة يفرضها الواقع، حيث إن الكاتب يرسم صورة الحقيقة فينسج حروفه لتنضح دنياه بما يكتبه، فيوجه كتاباته لما يعيد نبض المجتمع..

فهو الذي يبني ما يريده القارئ بأفكاره وأسلوبه الذي يصوغه بموهبته، لكن الكتابة ليست حكراً على ذوي الموهبة، بعدما أصبحت دور النشر تلهث وراء الترويج للعنة الأكثر مبيعا، التي فتحت الباب لكل من يمتلك ورقة وقلما أن يصبح كاتبا، فانتشرت ظاهرة الروايات، وبالتحديد روايات الرعب التي ازدحمت بها المكتبات بشكل مرعب، يتبع كثرته قتل الإبداع في مقابل أنواع الأدب الأخرى من النثر والقصة القصيرة والمقالات في الأدب الساخر والتاريخ وغيرها من ألوان الكتابات التي تحتضر..

فنقلت دور النشر الكتاب من تحت يد الكاتب إلى القارئ، فصار عليه تقييم الكتاب بشكل عقلاني يبتعد عن الزائف من الكتابات ويقترب من الكتابات التي تستحق القراءة.. لكني أخاف أن نصل إلى المرحلة التي وصلنا إليها في الغناء، فمن يستمع لأم كلثوم في هذا الوقت أصبح في نظرهم غريب الأطوار، ولا بد أن يرتدي القميص الأبيض بالمقلوب..!

صراحة.. القارئ هو الإله في هذا المجال، هو الذي يرضى ويغضب على ما بين يديه، ومنها يأخذ بيد الكاتب إلى الجنة أو إلى النار.

وأخشى أن يموت الإله وتضمحل مرحلة العبث الأدبي إلى الأسوأ. وعلى أي حال، أن يكون القارئ هو الإله خير من أن يكون "خليل كومبارس" هو الإله، فيصبح مثوانا جهنم وبئس المصير..!
A03D0CDD-E864-4548-B17D-EBCC894B1E58
محمود أبو عبية

طبيب وشاعر وكاتب قصص قصيرة ومقالات متنوعة فى الفلسفة والتاريخ والأدب الساخر.. ابن الحارة المصرية وعابر سبيل فى دنيا الله.