لم يستغرق عقل طالب الطب كثيراً لاستيعاب ما يحدث حوله، فالأنباء تتردد منذ أسبوعين عن نية السلطة فض الاعتصام بالقوة، خرج مسرعاً من خيمته ليدرك جيداً أن الأمر بات مسألة وقت.
مسؤولو التأمين في مواجهة مسلحين ملثمين يقولون عليهم رجال العمليات الخاصة، يحسب فرص فوز حامل الحجارة في مواجهة المدجج بالسلاح ويجد أنها لا تتعدى، نظرياً، الصفر، فيقرر اللجوء للحل السهل والنجاة بنفسه فيحتمي من الرصاص بجدار خرساني لدورة مياه تقبع في منتصف الميدان، ينتظر حتى يأتي الملثمون ويعطونه فرصة الخروج حياً والقبض عليه لمواجهة مصير مجهول.
يواجه الشاب وقت كتابة هذه الكلمات، وبجواره 188 رجلاً من رفاق الميدان "تشكيلة التهم" المجهزة لكل معتقلي الرأي ورافضي الانقلاب العسكري، المتمثلة في "القتل والشروع في القتل وحيازة أسلحة نارية وحيازة ذخائر، وإتلاف ممتلكات عامة والتعدي على موظفين عموميين، واستعراض القوة والبلطجة والتجمهر وتعطيل حركة المرور"، في القضية التي لم يصدر فيها حكم نهائي حتى الآن بحق 379، منهم 189 مقبوضاً عليه.
على الرغم من الاهتمام الإعلامي الكبير سواء محلياً أو إقليمياً أو عالمياً بجريمة فض اعتصام رابعة العدوية، شرقي القاهرة، إلا أن جريمة أخرى لا تقل عنها بشاعة اقترفتها قوات الأمن المصرية على الضفة الأخرى للنيل بميدان النهضة، فالمعتصمون الإسلاميون من محافظات الصعيد ومراكز محافظة الجيزة، والمعروف عن معظمهم التشدد، اختاروا ميدان النهضة مقراً لاعتصامهم في الثاني من يوليو/ تموز، أي قبل يوم واحد من إعلان الجنرال عبد الفتاح السيسي انقلابه العسكري بدعم شعبي.
مناوشات عدة وقعت بين المعتصمين من جهة وأهالي المناطق المحيطة بالاعتصام، كميدان الجيزة والمنيل وبين السرايات على فترات متباعدة من أيام الاعتصام، تعددت أسبابها بين الشحن الإعلامي للأهالي ضد المعتصمين من جهة، وشعور المعتصمين بتعرضهم للظلم من قبل الأهالي الذين يدعمون الانقلاب، وهو ما كان يدفعهم لارتكاب هفوات كثيرة تحسب عليهم، وتسببت هذه الهفوات في فقدان أي دعم شعبي حتى في الوقت الذي تمارس فيه الآلة الأمنية جريمة بشعة في حق أرواح المعتصمين.
شهادة
منذ اللحظة الأولى لفضّ الاعتصام، كان واضحاً أن أوامر صادرة من قيادات عليا في السلطة بالتعامل بأقسى درجات بث الرعب مع كل المتواجدين في محيط الميدان حتى مع الصحافيين.
المصور الصحافي مصطفى الشيمي الذي حطمت معداته وأصيب بكدمات في الوجه والصدر، يقول إنه كان يمارس عمله الطبيعي كمصور صحافي في ظل رسائل طمأنة متكررة من قبل وزارة الداخلية المصرية بأن ينزل كل إعلامي ليمارس عمله في تغطية فض الاعتصام ليرى بنفسه ضبط النفس من قبل رجال الأمن.
يضيف الشيمي: "في الساعات الأولى لصباح ذلك اليوم نزلت ومعي ثلاثة من زملائي المصورين لتغطية أعمال الفض، كنا في البداية بين صفوف قوات الأمن، بدأوا في إطلاق قنابل الغاز مباشرة بعد رسائل تحذيرية وجهها الأمن للمعتصمين أن يسلموا أنفسهم ويخلوا الميدان فوراً، مقاومة لا تذكر من المعتصمين ثم اقتحمت قوات الأمن الميدان، بعد ذلك بدأت الفوضى، جنود الأمن المركزي اقتلعوا الخيام من الأرض من دون تمييز بين الخيام الخاوية والتي يحتمي بها أحد المعتصمين، و"الأوناش" الجرافات ساوت كل شيء بالأرض في بضع ساعات".
يؤكد الشيمي أن ما حدث في ميدان النهضة يرجع إلى أن كل الأنظار كانت موجهة نحو ما يحدث في ميدان رابعة العدوية، ولكن لم يلتفت أحد إلى ميدان النهضة، فمهما كانت درجة بشاعة ما وقع بميدان رابعة العدوية فلن تساوي مشهد الجثث المحترقة للمعتصمين في الخيام.
المحرقة
نشر الموقع الإلكتروني لصحيفة "الوطن" المصرية المملوكة وقتها لرجل الأعمال محمد الأمين، أحد رجال نظام مبارك/ السيسي، فيديو، في العاشرة من صباح يوم فض الاعتصام، بادر الموقع إلى حذف الفيديو مرة أخرى معللاً ذلك بما يحتويه من مشاهد صادمة، إلا أن الموثقين الشباب أبقوا وجود هذا الفيديو على YouTube شاهداً على ما حدث في ميدان النهضة، يحكي هذا المشهد كل من مر بالميدان هذا اليوم قائظ الحر والمشتعل بالدماء من دون أن يؤكدوا بشكل قاطع السبب وراء حرق هؤلاء المعتصمين.
حقائق
بحسب تقرير لجنة تقصي حقائق 30 يونيو التي تشكلت بعد الانقلاب فإن عدد الضحايا في صفوف المعتصمين بلغ 88 قتيلاً و366 مصاباً، أمامهم قتيلان فحسب في جانب الشرطة المصرية. الغريب في الأمر أن الفضائيات الحكومية والخاصة وقتها كانت تذيع مقاطع لملثمين يقولون إنهم ينتمون إلى صفوف المعتصمين وهم يطلقون النيران على قوات الأمن، وبعد فض الاعتصام مباشرة أذاعت هذه القنوات مقاطع أخرى للجنود بجانب ما سموها مضبوطات من أسلحة وذخائر بالطبع يمكنها أن تقتل أكثر بكثير من جنديين.
الداخلية المصرية قالت إنها ضبطت 41 سلاحاً نارياً مختلف العيار وآلاف الطلقات بعد فض اعتصام النهضة، بقياس هذا الرقم على عدد القتلى من صفوف المعتصمين، وبافتراض أن الشرطة قتلت كل من يحمل السلاح، بحسب تأكيداتها المتكررة، فإن الشرطة قتلت على الأقل 47 أعزلاً لم يُحاسَب قاتلوهم.
(مصر)