"الناجي الأخير": حياة غريبة في صندوق أسود

08 أكتوبر 2015
(تصوير: سارة لي)
+ الخط -

رغم التغيّر الهائل الذي أحدثته المعرفة في حياة الإنسان، إلّا أن داخله لا يزال هشّاً بما يكفي، وغير قادر على الإحاطة الكافية بمعرفة ذاته على الأقل، بإيمانه ووعيه ورغباته، بتصوّراته وعجزه وخوفه. إنه يريد من أحدٍ ما أن يشاركه هذه المهمّة، لا يود أن يواجه المجهول وهو أعزل من الداخل.

هذا، على الأقل، ما يخبرنا به تشاك بالانيك (1962) في روايته "الناجي الأخير" (1999) التي ترجمها إلى العربية هشام فهمي وصدرت مؤخّراً عن "منشورات الرمل". عمل محتشد بالتفاصيل كُتب بلغة مرحة، وتحضر فيه مسحة من السخرية اللاذعة من كل شيء: من جهل الإنسان وسذاجته، من أنماط الحياة المستحدثة ومن الجفاف الذي أصيبت به الأرواح.

يدفع الخوف أشخاصاً كثيرين إلى الاتصال ببطل الرواية، تندر برانسن، دونما معرفة مسبقة، فكل شيء حدث بالصدفة: وُضع رقم هاتف المنزل الذي يعمل فيه خادماً، بطريق الخطأ، في إعلان موجّه إلى طالبي النصيحة والمساعدة، فبدأ سيل الاتصالات.

كلما ألحّتْ على المتّصل فكرة الانتحار، رغب في أن يكلّم أحدهم قبل أن يفعل، بحثاً عن شخص ما يقاسمه مسؤولية ذلك، ولم يكن الأخير يتردّد في إسداء النصائح الخرقاء.

تدور أحداث الرواية حول الطائفة "الكريدشيّة" التي تعيش في عزلة عن العالم الخارجي: "يتربّى أفرادها المخلصون على الإيمان بأن السبيل الوحيد للنجاة بالروح هو العمل حتى الموت مقابل لا شيء".

تُصدّر الكنيسة جيشاً من الخدم والعبيد إلى العالم الخارجي بعد تدريبهم، تأخذ أجورهم نقداً ثم تطلب منهم أن يُخلصوا في عملهم إلى الأبد. ولأسباب غامضة، يبدأ هؤلاء في الانتحار. أمّا من يتبقّى منهم، فيتكفّل شقيق برانسن بالإجهاز عليهم واحداً بعد الآخر، حتى لا يبقى منهم سوى تندر برانسن نفسه، الناجي الأخير.

يسجل الناجي/ الراوي قصّة حياته الغريبة على الصندوق الأسود لطائرة على وشك السقوط فوق الصحراء الأسترالية، يروي سنوات طفولته المعذبة، يحكي رحلة تحوّله من طفل مطيع وخادم متواضع إلى شخص آخر.

بعد موت جميع أفراد الطائفة الكريدشية، يتحوّل الناجي الأخير، بفعل ماكينة صناعة النجوم إلى ملهم ديني عالمي، تحتل مؤلفاته الغريبة قائمة مبيعات الكتب، وتتحوّل مقابلاته التلفزيونية إلى مناسبات لإعلان معجزات غيبية تخبره بها، سراً، رفيقته غريبة الأطوار فرتيليتي هوليس التي يستثمر أحلامها المسبقة عن كل ما يقع في أميركا، فيعلن مواقيت حدوثها على الشاشات باليوم والساعة ويزداد إيمان الناس به.

تتوالى الكوارث ويُتّهم بقتل المئات بسبب توقّعه نتيجة لمباراة في كرة القدم، فيصبح مطلوباً للشرطة وتبدأ رحلة الهرب الأخيرة التي تنتهي به على متن طائرة متّجهة إلى سيدني.

إنها رواية تفضح ما وصل إليه الإنسان المعاصر من خواء وهشاشة حوّلت الإيمان إلى حالة وظيفية ضمن منظومة ليبرالية باتت تتحكّم في كل شيء.



اقرأ أيضاً: نيقولاي غوغول.. في مزحة شيطان

المساهمون