"المنطقة الآمنة" بتفسيرات متعددة... وبحث عن تفاهمات تركية أميركية

18 يناير 2019
قوات المعارضة المدعومة تركياً مستنفرة في حلب(بكر القاسم/فرانس برس)
+ الخط -
تستحوذ قضية "المنطقة الآمنة" على الشريط الحدودي التركي مع شمال سورية، والتي أثارها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قبل أيام، على جزء رئيسي من الجدل حول الملف السوري، في ظل عدم اتضاح تفاصيل هذه المنطقة، خصوصاً ما يتعلق بالجهة التي ستتولى إقامتها وإدارتها. وبينما تتواصل المشاورات حول هذه القضية، تحديداً بين الولايات المتحدة وتركيا، تتسابق الأطراف المعنية لتفسيرها وفق فهمها ومصالحها، فيما يلوذ الجانب الأميركي بالصمت بانتظار، كما يبدو، استكمال المشاورات داخل واشنطن، ومع الأتراك والأكراد بشأن التفاصيل. وفي هذا الوقت، يحافظ النظام السوري وروسيا على موقفهما الرافض لأي مقترحات لا تتضمن عودة هذه المناطق بالكامل إلى سيطرة النظام، وإن كان ذلك لم يمنع كلاً منهما من الانخراط في مفاوضات (النظام مع الأكراد، وروسيا مع الأتراك) منفصلة لمحاولة التأثير في تشكيل ملامح المرحلة المقبلة لمناطق شرق سورية الغنية بالنفط والثروات الأخرى.
وفي السياق، تبرز الرؤية التي كانت واشنطن قد قدّمتها لأنقرة حول منطقة شرقي الفرات خلال زيارة مستشار الأمن القومي جون بولتون، ويمكن تطبيقها في "المنطقة الآمنة"، بحسب مصادر تركية تحدثت لـ"العربي الجديد"، إلا أنها قد لا تلقى قبولاً تركياً، خصوصاً أنها تضمّنت شرطاً أميركياً بعدم دخول القوات التركية إلى شرق الفرات، ليبقى حسم هذا الملف رهناً بالمباحثات بين البلدين.

وبعدما كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد أعلن، الثلاثاء، أن تركيا ستتولى تشكيل "المنطقة الآمنة" في شمال سورية، أكد وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، أمس، أن المباحثات ستحدد ما إذا كان هناك تطابق أو اختلاف في تفكير تركيا والولايات المتحدة بشأن طبيعة "المنطقة الآمنة"، موضحاً أن أول مباحثات في هذا الصدد جرت أول من أمس، الأربعاء، في اجتماع رئيسي هيئتي الأركان في البلدين في بروكسل، معلناً "مواصلة المباحثات مع الجانب الأميركي، بين عسكريينا ومؤسساتنا الأخرى، وبالطبع على مستوى وزراء الخارجية".
وخلال مؤتمر صحافي، أمس، مع نظيره المقدوني نيكولا ديمتروف، في أنقرة، أشار جاووش أوغلو إلى أن فكرة "المنطقة الآمنة" التي تحدث عنها ترامب، هي في الأساس مطروحة من قبل أردوغان منذ بداية الصراع السوري، مشيراً إلى أن هذه المنطقة مهمة من أجل استقرار الشمال السوري وعودة السوريين، وفي مقدمتهم الأكراد، فضلاً عن مكافحة الإرهاب.

في غضون ذلك، كشفت مصادر تركية مطلعة لـ"العربي الجديد"، أن الرؤية العامة التي نقلها بولتون إلى المسؤولين الأتراك حول شرقي الفرات، يمكن تطبيقها في "المنطقة الآمنة"، التي لم تتحدد معالمها بعد، وهي طُرحت في مرحلة حديثة، ولكن يمكن تطبيق النموذج الأميركي المطروح لحسم مصير الوحدات الكردية في المستقبل. وأفادت المصادر بأن لقاءات بولتون بالجانب التركي، حول انسحاب واشنطن من سورية، لم تحمل خطة مفصلة، بل رؤية عامة، وهي مجموعة محددات لهذه المنطقة، ولا تشمل دخولاً للقوات التركية إليها، وعلى العكس كان هناك تحذير واضح من الجانب الأميركي لأنقرة من الدخول في أي عمل عسكري في شرق الفرات.

وبحسب المصادر، فإن بولتون حمل لتركيا حديثاً عن المخطط الأميركي الذي يستغرق فترة طويلة، مؤكداً أن الاستراتيجية الأميركية في سورية هي هزيمة "داعش"، ومكافحة الوجود الإيراني، وعملية سياسية استناداً للقرار الأممي 2254، وأن الجانب الأميركي يرغب بأن تتولى حكم منطقة شرقي الفرات قوى من أبنائها. وحدد الجانب الأميركي القوى المحلية بأنها قوات من البشمركة الكردية السورية التابعة للمجلس الوطني الكردي، وتنتشر في مناطق وجود الأكراد، كما قوات من المكوّن العربي من العشائر المنتشرة في المناطق العربية، مثل تل أبيض، وتحديداً قوات عشائرية منضوية تحت راية "قوات سورية الديمقراطية"، مثل قوات أحمد الجربا وغيرها.
وعن الدور التركي المطروح لقتال "داعش"، أوضحت المصادر أن الطرح الأميركي هو أنه يمكن لتركيا مكافحة جيوب "داعش" التي تظهر مستقبلاً، ولكن قتال التنظيم لآخر لحظة هو من ضمن مهمة القوات الأميركية، وهذا يعني أن أميركا مستمرة بهذه الخطة، مع التحذير من القيام بأي عمل عسكري تركي أحادي الجانب، وأن عواقبه ستكون كبيرة على المدى الدولي والاستراتيجي.

وحول خارطة الطريق في منبج، أفادت المصادر بأن هناك اتفاقاً بين الجانب التركي والأميركي على الاستمرار في تطبيقها للنهاية، وتشمل إخراج جميع العناصر الموجودة من الوحدات الكردية من المنطقة، وضبطها أمنياً من الخارج، ولا تشمل أي دخول للقوات التركية، وسيتولى الأمر مجلس محلي توافق عليه أنقرة. ووفق هذه المعطيات، يبدو أن هناك تباعداً كبيراً في وجهات النظر التركية والأميركية حيال مستقبل شرق الفرات.

وفي السياق نفسه، لفت أمس ما نُقل عن وكيل رئيس حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا، نعمان كورتولموش، من أن تركيا "لن تقبل بمنطقة آمنة يكون هدفها تشكيل أي تنظيم سياسي في دولة جديدة بشمال سورية". وكان كورتولموش قد قال، الإثنين: "إننا لن نسمح بإنشاء ممر إرهابي في المنطقة البادئة من شمال العراق إلى نهر الفرات في سورية على الأقل، ولا بإنشاء منطقة تسيطر عليها منظمة إرهابية، هذا أمر يندرج ضمن قضايا الأمن القومي التركي".


أما في ما يتعلق بنظرة الأكراد لـ"المنطقة الآمنة"، وبعد رفض أولي للفكرة، أعلنت "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) والتي تشكل الوحدات الكردية عمودها الفقري، دعمها لإنشاء "المنطقة الآمنة"، معربة في الوقت نفسه عن أملها في الوصول إلى تفاهمات مع الجانب التركي. وأضافت في بيان، أنها ستقدّم "كل الدعم والمساعدة لتشكيل المنطقة الآمنة التي يتم تداولها حول شمال وشمال شرق سورية، بما يضمن حماية كل الإثنيات والأعراق المتعايشة من مخاطر الإبادة، وذلك بضمانات دولية".

الحديث عن حماية الإثنيات من "خطر الإبادة" وعن "ضمانات دولية"، يتناقض بطبيعة الحال مع التفسير التركي لـ"المنطقة الآمنة"، إذ قال المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالين، إن هذه المنطقة التي سيتم تأسيسها على الحدود السورية ستكون "تحت ضمانة تركيا".
وفي هذا السياق، قال المحلل السياسي التركي أوكتاي يلماظ، في حديث مع "العربي الجديد"، إن التصور التركي لـ"المنطقة الآمنة" يختلف كثيراً عن التصور الأميركي، فالأميركيون "يريدون إنشاء حزام أمني لحماية المسلحين الأكراد، بينما تركيا تريد إقامة منطقة مطهرة من الجماعات المسلحة تحت إشرافها، توفر الأمن لسكانها ولتركيا، كما تؤمن عودة اللاجئين". واستبعد يلماظ حدوث توافق في هذا الخصوص بين تركيا والولايات المتحدة، على غرار اختلافهما في تفسير مسألة الانسحاب الأميركي من سورية. وحول توقعه لسير الأمور في المرحلة المقبلة، أعرب يلماظ عن اعتقاده بأن الأمور تتجه إلى عملية عسكرية تركية واسعة في منطقة شرق الفرات، "من دون أن يعني ذلك تصادماً مع الولايات المتحدة أو مع روسيا التي ما زالت ترفض أيضاً مثل هذه العملية، وتريد عودة المنطقة للنظام السوري". لكن يلماظ توقع ألا تكون معارضة روسيا قوية للعملية العسكرية التركية، إن حصلت، وسيتم بحث هذه الأمور خلال القمة المقبل بين الرئيسين في الأسبوع المقبل.

على الضفة الأخرى، عبّر مسؤولون أكراد عن فهم مغاير للنظرة التركية إزاء هذه المنطقة. وقال الرئيس المشترك لـ"مجلس سورية الديمقراطية" رياض درار، إن "المنطقة الآمنة" هي "منطقة يُبعَد عنها المسلحون ولا تكون تحت سيطرة أحد الأطراف المعنية بالصراع". ورأى في حديث مع وكالة كردية أنه "لا يجوز أن تكون لتركيا يد في هذه المنطقة، وكذلك المسلحون المتطرفون. يجب ألا يسمح لهم بالدخول والخروج من هذه المنطقة وإليها". واعتبر أن أنقرة "معنية بحماية حدودها من جهتها فقط وليس بتدخّلها، وإن دخلت قواتها إلى هذه المنطقة، فهذا احتلال".
وفي السياق، قال مسؤول العلاقات الخارجية لحركة المجتمع الديمقراطي، آلدار خليل، لوكالة أنباء كردية: "إن كانت المنطقة الآمنة هي لحفظ الأمن في شمال سورية وحماية المنطقة من تهديدات تركيا، حينها يمكن القول إن هناك سياسة صحيحة تجاه الشمال السوري، أما إن كانت عكس ذلك، فالحديث والنقاش هنا يختلف". ورأى خليل أنه "إذا كانت تركيا هي الراعي للمنطقة الآمنة فلن يكون فيها أمن"، حسب تعبيره، داعياً إلى "وضع المناطق الآمنة تحت رعاية دولية والوقوف أمام التهديدات التركية".

من جهته، قال الناشط الحقوقي والسياسي الكردي، رديف مصطفى، إن المنطقة الآمنة هي بالأساس مشروع تركي قديم، و"ما زال الموضوع غير واضع المعالم لجهة عمق هذه المنطقة والقوى التي ستديرها، وقد نشهد لاحقاً تفسيرات تركية وأميركية مختلفة لهذه الأمور". ورأى مصطفى في حديث مع "العربي الجديد"، أن تأييد "قسد" لهذا الأمر يأتي "في سياق مختلف ومشروط، وبالتالي هم يتحدثون عن منطقة عازلة تحت إشراف دولي لا دور لتركيا فيها"، معرباً عن اعتقاده بأن تركيا لن توافق على مثل هذا الطرح.

أما الصحافي الكردي آلان حسن، المقيم في محافظة الحسكة السورية، فرأى أن موافقة "قسد" على "المنطقة الآمنة مشروطة بألا تكون تحت الوصاية التركية، بل الوصاية الدولية". وأوضح في حديث مع "العربي الجديد"، أن "قسد" ترى أن هدف المنطقة الآمنة هو إبعادها عن أي خطر خارجي، خصوصاً من جهة تركيا. ووفق هذا التصور، أضاف حسن: "لا يمكن انسحاب المقاتلين الأكراد من هذه المنطقة وتسليمها لجهة أخرى غير تركيا، إذ ترغب قسد في مواصلة إدارتها أو الاتفاق مع الحكومة السورية على صيغة ما لإدارتها".

في المقابل، ميّز عضو وفد أستانة، العقيد فاتح حسون، بين عدة مفاهيم للمنطقة "الآمنة" أو "العازلة" وغيرها من المصطلحات. وقال حسون في حديث مع "العربي الجديد"، إن "المناطق الآمنة وفق القانون الدولي مصطلح غير رسمي، لم يذكر في اتفاقيات جنيف الأربع ولا البروتوكولات الملحقة بها، التي وردت فيها مصطلحات قريبة من ذلك، منها المناطق الطبية، المناطق المحايدة، المناطق منزوعة السلاح، وهذه التسميات تعطي دلالات على أنها مناطق محددة تكون خارج الأعمال العسكرية لأسباب إنسانية للذين لا يستطيعون حماية أنفسهم أثناء الحروب والنزاعات المسلحة". وأضاف أن "المنطقة العازلة" تعني إقامة منطقة تفصل بين طرفي نزاع تسيطر عليها قوة دولية، ويكون هدفها منع التماس بينهما، وغالباً ما تكون برية، ومن الممكن أن تكون جوية، وتسمى حينها "منطقة حظر جوي". لكن "المنطقة الآمنة" لا تهدف للفصل بين الأطراف المتنازعة، بل توفير منطقة تحمي المدنيين الهاربين من الحرب، يمكن فيها تقديم الحماية والعون لهم، بحسب حسون.

ولفت إلى أن "العرف الدولي، وليس القانون الدولي، درج على أن تكون للمنطقة الآمنة إجراءات محددة بعد صدور قرار بشأنها من قبل مجلس الأمن، أهمها: أن تكون باتفاق الأطراف المتنازعة، وأن تخرج من سياق مناطق الأعمال العسكرية، وأن يُنزع السلاح منها، وأن تخضع لإدارة مدنية، وأن تُرسّم حدودها، وأن تتوفر حماية لها من قوات تتبع للأمم المتحدة أو قوات تحالف دولي، وأن يُفرض حظر جوي لحمايتها، وأن تتوفر ممرات آمنة لإيصال المساعدات الإنسانية إلى المدنيين فيها، وغيرها". وأردف قائلاً: "في سنوات سابقة، قامت قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بإنشاء منطقة آمنة في شمال العراق عام 1991 بهدف حماية الأكراد الفارين من نظام صدام حسين".
ورأى حسون أنه في حال أُقيمت منطقة آمنة في الشمال السوري، فإن "قوى الجيش الحر المنظمة والمدربة جاهزة لذلك، ويمكنها أن تحمي سكان هذه المنطقة ومن يلوذون إليها، إضافة لوجود قوات الجيش التركي التي لا يمكن اعتبارها طرفاً في النزاع، ويمكنها المشاركة الواسعة بإقامة هذه المنطقة عسكرياً ولوجستياً".

المساهمون