لا يكاد يخلو زقاق في العراق، من بيت "المطيرجي"، كما يسميه العراقيون، وهو الشخص المولع والعامل بتربية الطيور، تحديداً الحمام بأنواعه المختلفة. ولا تُمحى من الذاكرة العراقية قصص الخلافات بين "المطيرجي" وجيرانه بسبب الأوساخ والأصوات التي يطلقها على حمامه، إضافة إلى مشكلات عدم تمكن نساء الأحياء الشعبية من بلوغ أسطح بيوتهن بسبب استقرار المطيرجي على سطح منزله، ورفع عصا طويلة وشبكة، فضلاً عن الشجارات بين "المطيرجية" في ما بينهم على طير ضل طريقه إلى قفص غير قفصه.
للعراق تاريخ طويل بتربية الطيور، خصوصاً أن أجواء طقسه، شتاءً وصيفاً، تساعد في استقبال أنواع متعددة من طيور المنطقة العربية ومن الشمال البارد، إلى مناطق الوسط أو ما تُعرف بالفرات الأوسط، ومحافظات الجنوب، تحديداً ذات الوفرة المائية؛ وهي مناطق الأهوار مثل القطا. في حين تكثر الطيور الجارحة والنادرة، مثل الصقور، وأبرزها الشاهين. على صعيد الأحياء الشعبية؛ تشيع الأنواع الصغيرة والمحببة لكل العراقيين مثل الزاجل والفخاتي والأورفلي، التي يتمتعون بمنظرها كلما رفعت رأسها، إلا أن هذا المنظر اللافت، يقوده رجل لم يحظ بأهمية على مرّ تاريخ العراق الحديث، لدرجة أن شهادته في المحكمة كانت لا تُقبل، لأنه "مطيرجي" ويمينه باطلة، بحسب العراقيين، وأن كثيراً من المطيرجية لم يتزوجوا بسبب رفضهم من قبل الأهالي.
وبرغم أن مهنة "المطيرجي" مرتبطة بالفلكلور العراقي، إلا أنها ما تزال حاضرة بقوة، وتحديداً في مناطق شرق العاصمة بغداد، وفي مدن بابل والناصرية والمثنى والبصرة، بسبب ارتفاع معدلات البطالة بين صفوف الشبان، واختاروها كهواية مسلّية ومهنة يكسبون منها
يقول لـ"العربي الجديد"، إنه تخرّج من كلية الآداب قسم الآثار، عام 2014، ولغاية الآن لم يتمكن من الحصول على عمل ضمن تخصصه الدراسي، أو تعيين حكومي في دائرة أو موقع أثري. وخلال سنوات ما بعد التخرج اشتغل بأكثر من مجال، إلا أنه لم يتمكن من المواصلة، إلى أن اضطر أخيراً إلى اللجوء للحمام وتربيته ومن ثم بيعه، مبيناً أن "في تربية الحمام والدخول لعالم الطيور، ثمة راحة نفسية، فأنا حين تعصف بي الأمور وتشتد، أصعد إلى البرج، الذي يمثل القفص الكبير للحمام، ترتاح نفسيتي، وقد كان أهلي في البداية معترضين على تربية مهنة تربية الطيور، إلا أنهم حين تأكدوا أنني أجني أموالاً جيدة بالإضافة إلى مزاجي الجيد بعد سنوات من تخرجي، تبلورت القناعة بهذه المهنة".
صالح العبيدي، (25 عاماً) وهو مربي حمام في حي الكرادة ببغداد، يشير إلى أن "المهنة موروثة لدى عائلته"، موضحاً لـ"العربي الجديد"، أن "والده كان مطيرجي أيضاً وجده كذلك، وأن المهنة لا ترتبط بعمر معين، فكل الأعمار مهيأة لهذا النوع من العمل الذي يتحوّل بالتدريج من هواية محببة إلى النفس إلى عملٍ يدر على صاحبه مالاً يعيش وعائلته منه، وفي السابق كان هناك اتجاه واسع على أنواع الحمام التي نربيها، إلا أن السنوات الأخيرة، تحوّل توجه المواطنين إلى طيور الزينة، مثل الببغاوات واللقالق والبلابل".
ويقص العبيدي، أبرز خلافاته مع جيرانه، بأن "أكثرها خلافات حول وجودي الدائم على سطح منزلي، وهذا الأمر يزعج الجيران، مع العلم أنني لا أنظر إلى أي شخص في سطح منزله، وأنا لا علاقة لي بأي أمر غير الحمام الذي أملكه، وأحياناً ينزعج الجيران بسبب الأحجار والخشب الخفيف الذي أقذفه صوب الحمام في السماء حين تخطئ في تحليقها وتبتعد عن سطح بيتي، وهذا الخشب يسقط في الغالب على أسطح الجيران، وتبدأ الخلافات، إلا أن علاقاتنا لا تنتهي بذلك، ويمكن القول إنها خلافات مضحكة وسوء فهم لا أكثر".
ولعل العراق، هو المصدر الأهم للحمام في الخليج العربي عموماً والكويت على وجه الخصوص. حتى الآن، يستمر العراق بتصدير الطيور، وهو الأمر الذي جعل من "المطيرجي" العراقي بمرتبة أعلى من نظيره العربي، بحسب عبد الرحمن القباني، وهو مربي طيور.
ويقول لـ"العربي الجديد"، إن "المطيرجي العراقي يعتبر الأبرز في مهنته من باقي المطيرجية
الباحث بشؤون الموروث الشعبي العراقي، أحمد عبد الحميد، يبيَّن أن "معظم الذين يشتغلون بمهنة تربية وبيع الطيور، لم ينالوا قسطاً وافراً من التعليم، وجعلوا هذه الهواية مهنتهم التي يعيشون منها عندما كبروا، وقد واجهتهم مشكلات كبيرة في حياتهم، أبرزها أن شهادتهم أمام المحاكم العراقية لم تكن مقبولة، باعتباره شخصاً غير مرغوب فيه، إلا أن هذا الإجراء انتهى"، معتبراً في حديثٍ إلى "العربي الجديد"، أن "نظرة المجتمع المُحتقرة للمطيرجي، ما تزال ثابتة عند كثير من العراقيين، رغم أنهم، من جهة، يساهمون في الاعتماد على أنفسهم في هذه الحياة، ومن جهة أخرى هم جزء أساسي من الثقافة الشعبية العراقية".