مثّلت الندوة العلمية التي نظّمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تونس بين 5 و7 مارس/آذار الحالي حدثاً هاماً، ولا يعود ذلك فقط إلى نوعية الجمهور الذي واكب فعالياتها من أكاديميين وطلاب جامعات في اختصاصات لها علاقة بالعلوم السياسية وعلم الاجتماع، وإنما لتناولها مسألة لم تطرح بشكل كبير سابقاً على الصعيد العربي، إذ كان موضوع الندوة هو "الانتخابات والانتقال الديمقراطي: مقاربات ومقارنة". وكان الغرض من ذلك هو البحث عن إجابات عميقة حول العديد من الأسئلة، في مقدمتها: هل يمكن أن يوفر تنظيم انتخابات ديمقراطية ونزيهة ضمانة كافية لتحقيق انتقال ديمقراطي؟
يقول مدير المركز ووزير الثقافة التونسي السابق مهدي مبروك، في تصريح لـ "العربي الجديد"، إن هذه الندوة تستمد أهميتها من كونها "أول ندوة عملية تبحث ظاهرة الانتخابات في علاقة مع التحول الديمقراطي، مستحضرة أكثر من تجربة في سياقات مختلفة من دون إخراج هذه التجارب عن سياقاتها، وهو ما أعطى دلالة وأهمية للخصوصية التونسية".
ويشير مبروك إلى أن "الندوة ساعدت على تعميق النقاش حول دور النخب السياسية، وكذلك ما يسمى بالدولة العميقة، ومعرفة الأطراف التي لها دور وتأثير على مراحل الانتقال سواء للدفع بها نحو الأمام أو لخلق صعوبات عديدة تقف وراءها لوبيات، وشخصيات نافذة وقوى تتحرك وراء الستار".
بداية الندوة كانت مع جلسة نوعية قدّم خلالها الدكتور عياض بن عاشور محاضرة افتتاحية تحت عنوان "الشعب يبدع حقه ويفسر دستوره". بن عاشور الذي لعب دوراً مميزاً عندما ترأس الهيئة العليا لحماية أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي بعد هروب الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي من البلاد، وصف الثورة التونسية بأنها "دستورية"، ويقصد بذلك أنها احترمت روح القانون حتى في أحلك الفترات التي مرت بها، وهو ما دفعها إلى تعيين رمز من رموز النظام السابق على رأس الدولة في إشارة إلى فؤاد المبزع.
كما اعتبر أن نجاح الباجي قائد السبسي في الانتخابات الرئاسية يعود إلى شعار اعتبره بن عاشور "موحّداً للتونسيين"، ويتمثل في "دولة مدنية لشعب مسلم".
إقرأ أيضاً: أزمة "نداء تونس" تتفاعل: انتخابات المكتب السياسي مؤجلة
الندوة التي واكب جلساتها العلمية التسع ما لا يقل عن 100 مشارك، تناولت العديد من المحاور الهامة، وغطت الدول التالية: تونس، مصر، المغرب، الجزائر، العراق، ليبيا، تركيا، موريتانيا، رومانيا، الكاميرون. كما ساهم في تنمية النقاش عدد من الخبراء ذوي الكفاءة تمت دعوتهم من دول غربية عديدة.
وناقشت الندوة أهمية التراث الدستوري في ضمان عمليات الانتقال الديمقراطي. وفي هذا السياق تم استعراض أبرز المفاهيم الجديدة مثل تحديد مفهوم الانتقال الديمقراطي، ومسارات العدالة الانتقالية، وهل لا يزال مفهوم الانتخاب يشكل أداة كافية لضمان التمثيلية الشعبية أم يجب التحول نحو الديمقراطية التشاركية؟
كذلك تمت مناقشة ما سمي بـ "الاستثناء التونسي"، ودعا البعض إلى ضرورة تنسيب هذا المفهوم، والتساؤل عن أسباب النجاح النسبي الذي تحقق تونسياً، وهل يعود إلى عامل تاريخي، أم التراث الدستوري للتونسيين، أم إلى وجود مجتمع مدني فاعل، أو توفر أرضية لتحقيق حالة من التوافق من خلال الدور الذي قام به الرباعي الراعي للحوار الوطني.
كما ناقش المشاركون العامل الديني ودور حركات الإسلام السياسي، سواء في تونس أو في الحالة الجزائرية، حيث انحرفت فيها إحدى تعبيرات هذه الحركات عندما دفعت بالبلاد نحو الحرب الأهلية. كذلك تحميل الإسلاميين مسؤولية ما وصف بـ "إفساد الديمقراطية" في العراق. ولم يغب أيضاً السؤال حول مدى سلامة الديمقراطية في ظل وجود إعلام غير نزيه يعتمد التلاعب بالرأي العام.
لكن من المسائل التي فاجأت معظم المشاركين في الندوة ما ذكرته الباحثة الكندية كلير دوران، المختصة في استطلاعات الرأي، عندما ذكرت أن الأبحاث التي قامت بها، والتي شملت عشرين دولة، أكدت لها أن عمليات سبر الآراء لا تؤثر إطلاقاً على نتائج الانتخابات، وذلك خلافاً لما يذهب إليه الكثيرون، خصوصاً في الدول العربية.
من جهة أخرى لم يغب عن أجواء ندوة المركز البحث عن عوائق الانتقال الديمقراطي، وفي مقدمتها الإرهاب الذي أصبح يهدد الجميع بما في ذلك "الاستثناء التونسي".
وفي هذا السياق جاءت مداخلة منير السعيداني حول "بروز النخب وتجددها والانتقال الديمقراطي"، وقد ذكر في حديث لـ "العربي الجديد" أن "هناك سياقات لما يسمى بتدوير النخب التي تؤدي إلى بروز نخب جديدة تطرحها أزمات الأنظمة ومنوال التنمية التي تجلت خلال مختلف الأشكال الاحتجاجية، وتقود إلى بروز مستويين من النخب، أولها الحاد والسريع والثوري والاحتجاجي، ويقابلها الهادئ والسياسي والحزبي، وحُسم في تونس لصالح النوع الثاني الذي سيطر على مجرى الانتقال الديمقراطي".
كما أشار السعيداني إلى نماذج بروز النخب في دول أخرى كالجزائر، التي برز فيها مفهوم التغيير من الداخل لوجود حزب قوي وجيش قوي، أو ليبيا التي حصل فيها الانحراف بسبب ضعف المجتمع المدني وسيطرة مفهوم القبيلة.
وركز في مداخلته على ما اعتبره بقاء النخب التي مارست الاحتجاج القوي في تونس خارج "اللعبة السياسية الرسمية"، مما جعل السلطة "التي قامت نتيجة لاختتام مسار الانتقال الديمقراطي إلى الاتصاف بسمات الحكم القويّ"، مشيراً إلى أن "ذلك قد يفتح الباب مجدداً إلى تمييز ملامح القيادات المناضلة عن ملامح القيادات الحاكمة من جديد".
من جهته، قال رئيس حركة "النهضة" راشد الغنوشي الذي شارك في افتتاح الندوة، "إن الثورة نقلت السلطة إلى الشعب وهو مسؤول على المحافظة عليها بكل نخبه وبكل أحزابه ومؤسساته المهنية والشعبية، وأن يترجم جانبها القانوني تحت البيت الذي رفعت أركانه وسقفه وهو بيت جميل بحاجة إلى التأثيث"، مشدداً على أن الثروة التونسية "قانونية وحرصت على القانون، وبالتالي فإنه من الضروري إعادة الاعتبار إلى القانون والعمل في نفس الوقت، فهيبة الدولة معناها هيبة القانون وكرامة المواطن".
أما وزير الخارجية التونسي السابق رفيق عبد السلام، فاعتبر أن تونس ما زالت تمر بمسار الانتقال الديمقراطي باعتباره مساراً متعرجاً ويتطلب مدة طويلة، لكنها تجاوزت مرحلة الخطر وما زال هناك العديد من التحديات.
كما كانت ندوة المركز غنية بالمداخلات العميقة، ومنها مداخلة الباحث التونسي عبد اللطيف الهرماسي، وهو كان أول من أنجز أطروحته الجامعية عن حركة "النهضة"، وعلى الرغم من أصوله اليسارية إلا أنه دافع عن الإسلاميين، وكان متفائلا بقدرتهم على التطور طيلة السنوات الثلاثين الماضية.
لكن مداخلته الأخيرة جاءت صادمة، إذ قال إنه يجد نفسه مصدوماً عندما أعلن أنه مضطر لتغيير موقفه تجاه الحركة، وأن يعلن بأنها "لم تتخلص من عباءة حسن البنا". لكنه في المقابل رأى أن لحركة "النهضة" مقومات التطور مقارنة بغيرها من حركات الإسلام السياسي. كما أشار إلى وجود أجنحة داخل الحركة بعضها يتمتع بالقدرة على دفعها نحو الأمام.
ولم يغفل المنظمون للندوة دعوة رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التونسية شفيق صرصار، وتكريمه نظراً للتجربة الناجحة التي قادها في تونس، وهو جعله يرى في ذلك "لفتة كريمة غير مسبوقة".
وقد ذكر رئيس المركز مهدي مبروك أن صرصار أهدى للمختصين ومراكز الأبحاث تجربة يمكن دراستها علمياً انطلاقاً من معطيات دقيقة وغير مشكوك في صحتها، مما سيشكل إضافة إلى علم الاجتماع في مجال دراسة السلوك الانتخابي. واعتبر صرصار من جهته أن هيئة الانتخابات ستعمل في الأيام المقبلة على الاستعداد للاستحقاقات الانتخابية البلدية، ومواصلة العمل على تركيز ثقافة انتخابية في البلاد وضمان مؤسسات دائمة وبناء ثقة لدى المواطن على أساس أنه المعني الأول بالانتخابات.
إقرأ أيضاً: تونس: جندوبة تصنع الثورة ولا تقطف ثمارها