لا تزال المراجعات مفتوحة، على اختلافها بين بلد عربي وآخر، لمرحلة الانتقال من السلطنة العثمانية إلى الدولة الوطنية وتطرح مساءلات حرجة ضمن مستويات متعدّدة في مقدّمتها طبيعة العلاقة بين المجتمع وبين معظم الأنظمة، التي تغوّلت على الدستور ولم تؤسس لتداول سلمي للسلطة.
يتناول الباحث الأردني جهاد المحيسن تلك الفترة في كتابه "القبيلة والدولة في شرق الأردن" الصادر عن "دار فضاءات" (2020)، منطلقاً من فرضية مركزية بأن الأردن "لم يألف أي شكل من أشكال السلطة المركزية المباشرة"، معتبراً أن الآليات التي تبلورت فيها السلطة التقليدية لشيوخ القبائل والعشائر توضّح موقفهم الرافض لضبط حركتهم وتحديدها في أطر نظامية جديدة.
لا تبدو هذه القراءة دقيقة بالمطلق، بالنظر إلى أن عدم الاستقرار وغياب الأمن على نحو دائم زمن العثمانيين لا يلغي سيطرتهم وقدرتهم على تأمين مصالحهم الحيوية على طول طريق الحج في أغلب الأحيان، لكنها بالطبع تظلّ محاولة لفهم انتقال القبيلة الذي تمّ قسرياً إلى الدولة الوطنية الحديثة، ولم يكن ضمن صيرورته التاريخية، بحسب الكتاب.
ويفصّل المحيسن في الفصل الأول التكوينات الاجتماعية والاقتصادية الذي يوضّحه التوزيع الجغرافي للعشائر الأردنية بين أرياف مستقرّة في الشمال والبلقاء والكرك والطفيلة ومعان وبين قبائل بدوية مارس بعضها الزراعة إلى جانب تربية المواشي، وبين مهاجرين قدموا من القفقاس خلال سبعينيات القرن التاسع عشر واستقرّوا في الأردن، وكيف انتهجت الأستانة سياسة استخدام القوة أو كسب الود في تعاملها مع هذه القبائل تبعاً لظروف السلطنة.
كما يلفت إلى سعي الإنكليز إلى إيجاد صيغة حكم محلّي للأهالي تمثلت بإنشاء حكومات محلية، إلا أن هذه الصيغة لم تنجح، فقد تفككت هذه الحكومات في لحظة ولادتها، بسبب تنازع العصبيات في ما بينها، فكان لا بدّ من إجراء آخر يسمح بضبط الأمور، وينسجم مع المخطط الاستعماري الرامي لحماية مصالحه في المنطقة.
في دراسته للانتفاضات المحلية التي أعقبت اتفاق الأمير عبد الله بن حسين مع ونستون تشرشل، الذي كان وزيراً للمستعمرات آنذاك، في الثامن والعشرين من مارس/آذار 1921 بالقدس، وأفضى إلى تشكيل حكومة في شرق الأردن، تحضر ملاحظات أساسية في مقدّمتها أن التمرّدات ضدّ السلطة الجديدة لم تتمّكن من فرض سيطرتها في مناطقها، كما لم تستطع قوات الحكومة الناشئة إعادة الأمن دون تدخّل القوات البريطانية بقيادة فردريدك بيك.
وقد حدث ذلك، بحسب المحيسن، في انتفاضة الكورة (شمال الأردن) التي استمرّت عاماً كاملاً قبل أن يحسمها الطيران وسلاح المدفعية في الجيش البريطاني، كما تدخّل أيضاً في قمع انتفاضة الكرك والطفيلة ثم "انتفاضة العدوان" سنة 1923، وانتفاضة "وادي موسى" عام 1926، لكنه يوضّح أن تلك التمرّدات لم تكن لأسباب سياسية محضة ولم تمثّل تحركاً وطنياً منظماً، باستثناء انتفاضة العدوان التي تبّنت مطالب الحركة الوطنية الأردنية وأهمها تخفيض الضرائب والنفقات العامة للدولة وآلية التعيينات في الوظائف الرسمية.
ويخلص إلى أن "السلطة لم تسع - بشكل كامل - إلى تغييب سلطة شيوخ العشائر، بل عملت على توظيف سلطتهم على عشائرهم بما يتناسب مع مصالحها، فقد تمت استمالتهم عبر منحهم الألقاب، وتوزيع الأراضي على بعضهم"، ضمن تحليله للفترة الواقعة بين عاميْ 1921 و1936.
ينتقل الكتاب إلى الدور الذي لعبته المؤسسة العسكرية في دمج المجتمع الأردنيّ بمشروع الدولة وقسّمها إلى مرحلتين؛ الأولى كان فيها معظم أفراد الجيش من سكّان الريف والمدن، وكانت مهمّتهم الأساسيّة الحفاظ على الأمن وفرض النظام، وتكريس السلطة المركزية للنظام السياسيّ الجديد بقيادة فردريك بيك، والثانية بالتوجّه نحو القبائل البدوية من أجل توطينهم والحدّ من غزواتهم، وقد استُعين بخبرات كلوب باشا (أبو حنيك) الذي تمرّس العمل العسكريّ والسياسيّ مع العشائر البدويّة العراقيّة، والذي أنشأ قوة البادية.
شكل توقيع المعاهدة الأردنية - البريطانية عام 1928 نقطة تحول مهمة في تاريخ الحياة السياسية، وفق المحسين، ساهمت في تبلور المعارضة الوطنية التي عبّرت عن رفضها الاتفاقية ما اضطر السلطة إلى فرض حالة الطوارئ عام 1933 مع تصاعد حضور المعارضة في الشارع التي تبنّت مواقف تتعلّق كذلك برفض الاستعمار البريطاني والهجرات اليهودية إلى فلسطين، وانحيازها التام إلى الثورة السورية ضدّ الاستعمار الفرنسي.
يضع الكتاب خريطة لجميع الأحزاب التي تأسّست في تلك الفترة وأبرز أدبياتها، ومنها حزب الاستقلال العربي الذي تأسّس مع انهيار المملكة العربية السورية في دمشق عام 1920، وكانت زعاماته من سورية ولبنان وفلسطين ما سبّب اعتراضات من قيادات سياسية وعشائرية أردنية بسبب احتكارهم معظم مناصب الدولة الجديدة، إلا أن ذلك لا يحجب مواقفهم الثابتة ضدّ الاستعمار، وجمعية الشرق العربي التي نادت باستقلال سورية الطبيعية، وحزب الشعب الذي طالب بحكم ملكي دستوري، وحزب العمال الذي تبنّى أفكاراً اشتراكية لكن لا وجود لمراجع تاريخية تربط صلته بالحزب الشيوعي الفلسطيني.
يختم المحيسن بالإشارة إلى أن نشوء الدولة جذب مجموعات من المتعلمين والتكنوقراط فتشكلت نخبة بيروقراطية سياسية، وإلى جذب التجار والصناع ونشوء نخبة اقتصادية، ارتبطت مصالحها مع الأمير عبد الله الذي كان يمثل رأس الهرم، وانعكست هذه التغيرات على البناء الاجتماعي، وأصبحت آلية السيطرة الاجتماعية والسياسية في هذه المرحلة مختلفة جذرياً عن المرحلة السابقة.