"القاتلة" بمنطق الجمال والحرب

23 مايو 2016
(الممثلة التايوانية شو كي في أحد مشاهد الفيلم)
+ الخط -

بعد ثماني سنوات استعادت السينما المخرج التايواني هيساو هايسن هو (1947) الذي قدّم فيلمه "القاتلة"، وهو ليس أحد أفضل أفلامه فحسب، بل ربما يكون الأهم من بين الأعمال التي تعرّف عليها الجمهور في 2015، إذ اعتبره الكثير من النقّاد فيلم العام بجدارة، وقد حصل عنه على سعفة "كان" الذهبية كأفضل مخرج في الدورة الماضية.

قصّة "القاتلة"، التي يقترحها صاحب "طيران البالون الأحمر" بعيدة كلّياً عن الدراما التي عُرف بها خلال مسيرة امتدّت لأكثر من ثلاثين عاماً. يعود هايسن هو إلى المألوف عن السينما الآسيوية؛ حياة القتال والحروب. لكن وخلافاً لما قد يُفهم من عنوان الفيلم، يصنع المخرج ملحمة بصرية تخالف وتفاجئ ذاكرة الجمهور عن أفلام الحروب والأبطال المعلّقين في الهواء والمعارك الثنائية التي تبتعد عن الواقع، كما فعل أنغ لي في فيلم "النمر الرابض والتنين الخفي" وغيره من المخرجين. أراد صاحب "غبار في الريح" أن يصنع قصّة واقعية عن شابّة قاتلة، من دون أن يبتعد عن منطق الواقع.

تعود أحداث الفيلم إلى القرن التاسع، حين كانت الصراعات على أشدّها بين العائلات الحاكمة للصّين، وحكّام المقاطعات التابعة لها. وقد جرى تدريب الشابة "ني إينيانغ" (أداء الممثلة شو كي) منذ طفولتها على القتل، لتقوم بمهمة تنظيف الإمبراطورية من حكّام المقاطعات الفاسدين.

تضعنا بداية الفيلم، التي اختار المخرج أن تكون بالأبيض والأسود، في المسار المتوقّع للقصّة. تظهر القاتلة برفقة معلّمتها التي تحدّد لها مهمّتها الأولى وهي قتل اثنين من النبلاء الفاسدين. وبعد نجاح المهمة الأولى تفشل القاتلة في تصفية هدفها الثاني، لأنها لم ترغب بقتله وطفله بين يديه. على إثر هذا الإخفاق، تقرّر معلمتها أن تعود بها إلى مقاطعة (ويبو) مسقط رأسها، وتأمرها بقتل ابن عمّها حاكم ويبو تيان جيان (أداء تشانغ تشن)، الرجل نفسه الذي كان سيتزوجها في الماضي. بعد اقترابها من حياة حاكم ويبو تقرر أن تخالف أوامر سيدتها للمرة الثانية، وألا تقتله كي لا تُجرّ المقاطعة إلى الفوضى، بل ستنقذ موكب المستشار تيان تشانغ الذي نفاه الحاكم بعدما لم يرقه حديث صريح منه عن تحالفات مقاطعة ويبو وعداءاتها.

الفيلم الذي تأخّر عرضه كثيراً بسبب مشاكل في الإنتاج، جاء ليحمل بصمة مخرج كبير، إذ لم يمرّ مشهد واحد في هذه الملحمة من دون أن يجعله مخرج "وداعاً أيها الجنوب" مثخناً بالجمال، سنشاهد كاميرا خلف الستائر المعلّقة وحوارات مهمّة تجري خلفها أيضاً، فضاءات التصوير كانت كلّها مؤثّثة بالأثواب الحريرية والأعمدة، الغاية الجمالية التي أصر المخرج على بلوغها كاملة في كل تفصيل من العمل.

من جهة أخرى، لعبت الكاميرا الخارجية دوراً لا يقل جمالاً وتأثيراً عمّا قدّمته المشاهد الداخلية من سحر، فقد اختار المخرج ومدير التصور مارك لي كادرات أخّاذة ودقيقة وتفصيلية، تجعل المتفرج يعتقد أن المهم في هذا الفيلم هو ما يشاهده وليس ما يسمعه، لذلك سنلاحظ قلّة الحوار، البطلة مثلاً لم تتحدث سوى في أربعة مشاهد أو أكثر، وبكلمات معدودة رغم أنها كانت دائمة الحضور أمام الكاميرا، المخرج كان يكتفي بملامحها وتقاسيم وجهها الحزينة حتى نفهم المعاناة النفسية التي تقف خلف هذه الجسد القوي.

البناء الدرامي كان متمهلاً، يعتمد على الصورة كما قلنا، وعلى تفاصيل المكان التي حاول فريق التصوير، أن تكون مغرقة في الدقة ومتناهية في القرب من التفاصيل. كما أن الطريقة التي تناول بها الفيلم المعارك ومشاهد العنف كانت جديدة، ففي فيلم عن حرفة القتل أوالاغتيال سنجد أن مشاهد المعارك قليلة ومتباعدة، حيث يفصل بينها حيز زمني طويل، وهذه الإستراتيجية بعيدة تماماً عن أسلوب ونمط أفلام المعارك والعنف في السينما الآسيوية. يدهشنا المخرج بقيمة الصمت في فيلم محور قصته هو العنف والصخب والتصفيات، خصوصاً صمت البطلة وانزواءها وتعابير وجهها التي لم تغادر الحزن؛ حزن سنفهم مع اقتراب الفيلم من نهايته كل أسبابه.

صحيح أن أفلام الحركة والقتال هي الغالبة على ما نعرفه عن السينما الآسيوية، لكنها غريبة عن منجز المخرج هايسن هو، الذي يعتبر رائد الموجة الجديدة في السينما التايوانية، وفي نهاية تسعينيات القرن الماضي أطلق عليه نقّاد السينما إثر تصويت عالمي، لقب مخرج "العقد"، بعد أن طرق قصصاً غير مألوفة درامية وعميقة مثل ثلاثيته الشهيرة "مدينة الحزن" و"سيد الدمى" و"رجل جيد، امرأة جيدة"، أو بعد ظهور حقيقة السينما التي يبحث عنها وينتمي إليها المخرج والتي تجلّت في "أزهار شانغهاي" و"الصيف في بيت جدي" و"ثلاث مرات".

حين قرّر هايسن تقديم هذا النوع من الأفلام، قدّم العنف من خلال شخصية امرأة محاطة بالجمال؛ أمر ستعبّر عنه الراهبة لتلميذتها جين تقول "مهاراتك منقطعة النظير لكن قلبك رهين للمشاعر الإنسانية".

دلالات
المساهمون