06 نوفمبر 2024
"الفرنسة" لمواجهة "الأسلمة"
الحديث عن "إصلاح التعليم" في المغرب لم ينته منذ استقلال البلاد، قبل أكثر من نصف قرن، ولن ينتهي اليوم أو غداً. والمشكل أن السياسات العمومية، غالباً، ما كانت تتعامل مع التعليم كمنظومة أيديولوجية، من يتحكّم فيها يستطيع أن يتحكّم في المجتمع. لذلك، ظلت القرارات التي تخص التعليم ذات طابع استراتيجي للقصر، هو الذي يحسم فيها.
هذه القاعدة مازال معمولاً بها، حتى اليوم، فوزير التربية والتعليم في الحكومة الحالية التي يقودها الإسلاميون، "تكنقراطي" عينه القصر، وآخر قرار "استراتيجي" اتخذه، والقاضي بفرنسة التعليم الابتدائي في المغرب تم باستشارة مباشرة مع القصر، وليس مع رئيس الحكومة.
وحتى عندما اكتشف رئيس الحكومة الإسلامي، أن وزيره في التعليم اتخذ قراره بفرنسة عدة مواد علمية، مثل الرياضيات والفيزياء في المستويات الابتدائية الأولى، من دون الرجوع إليه، أمره في جلسة أمام البرلمان، كان التلفزيون الرسمي يبثها مباشرة، بالعدول عن قراره الذي لم يتشاور معه فيه. وأمام ملايين المشاهدين المغاربة، قال رئيس الحكومة لوزيره في التعليم، إنه بقراره هذا يريد إشعال نار الفتنة داخل المجتمع، وأمره أن يتراجع فوراً عن قراره. لكن، بعد أسبوعين، سيخرج الناطق الرسمي باسم القصر الملكي، ليعلن على شاشات القنوات الرسمية المغربية أن الملك قرّر تزكية سياسة وزير التعليم. أما رئيس الحكومة فابتلع لسانه ومع حرجه.
جوهر هذا الخلاف يعود إلى القرار الذي اتخذه وزير التعليم بدون العودة إلى رئيسه المباشر، أي رئيس الحكومة، لتدريس مادتي الرياضيات والعلوم الفيزيائية باللغة الفرنسية في مرحلة التعليم الثانوي، بدءاً من العام الدراسي المقبل، وبدأ بالفعل في تجريب قراره في بعض المدارس، ابتداء من الموسم الجاري. وبدخول هذا القرار حيز التنفيذ، يكون المغرب قد بدأ بإغلاق قوس سياسة "تعريب التعليم" الذي بدأها تدريجياً، منذ سبعينيات القرن الماضي، ليعود إلى عهد الفرنسة التي ورثها عن الاستعمار الفرنسي. فطوال العقود الأربعة الماضية، انتهج المغرب سياسة تعليمية هجينة، ظل الصراع فيها ما بين العربية والفرنسية محتدماً، ما أنتج معه أجيالاً من أشباه المتعلمين، لا يتقنون أياً من اللغتين، وأدى إلى تدني مستوى التعليم العمومي، ما أفسح المجال أمام ازدهار التعليم الخاص، مع ما لذلك من تأثير في إفراز تفاوتات طبقية صارخة، أصبحت تخترق المجتمع المغربي، وتوسع الشقة ما بين شرائحه.
ومرة أخرى، عاد التعليم كما كان مجالاً للصراع الأيديولوجي. ففي سبعينيات القرن الماضي،
عندما قرّر الملك الراحل الحسن الثاني (1961 – 1999) تعريب التعليم، فعل ذلك بهاجس سياسي هو كسر شوكة المعارضة اليسارية التي كانت لها امتدادات كبيرة داخل الفئات المتعلمة. ولأن البلد لم يكن مستعداً لإجراء مثل ذلك في ذاك الوقت، اضطر المغرب إلى التعاقد مع مدرسين من دول المشرق، خصوصاً من مصر وسورية وفلسطين. وصادف انفتاح المغرب على التعريب الهجمة التي كان يتعرّض لها الإسلاميون في دول مثل مصر وسورية من أنظمتهم العسكرية، فاستقدم المغرب كثيرين منهم للتدريس في مدارسه العمومية.
اليوم، يعتقد كثيرون أن سياسة التعريب والاستعانة بمدرسين من الشرق، أغلبهم من الإسلاميين المضطهدين في بلدانهم، هي التي زرعت بذور المد الإسلامي الكبير الذي يشهده المغرب اليوم. طبعاً، كان منطق الدولة، آنذاك، في الحاجة إلى كبح جماح المد اليساري المتنامي عبر العالم، واعتمد في حربه تلك سياسة النفس الطويل، من خلال العمل على تغيير المنظومة التعليمية، وما تحمله من قيم.
نجحت تلك السياسة في تراجع المد اليساري داخل المجتمع، لكنها ساهمت في المقابل في تنامي المد الإسلامي، إلى درجة أصبح معه هذا المد مزعجاً للدولة، فأملى عليها منطقها مجدداً اللجوء إلى الفرنسة لمواجهة "أسلمة" المجتمع.
ومرة أخرى، يعود استعمال التعليم أداة أيديولوجية في الصراع السياسي داخل المجتمع. لكن، ما نجحت فيه السلطة، أمس، يصعب ضمان نتائجه اليوم. فاللغة الفرنسية تعرف تراجعاً كبيراً في العالم، والقيم التي كانت تمثلها الثقافة الفرنسية، قبل أربعة عقود، ليست هي القيم نفسها التي تحملها هذه الثقافة اليوم.
يُضاف إلى ذلك أن التعليم العمومي الذي كان هو الذي يخرّج أغلب المتعلمين في المغرب، أصبح له منافس كبير، هو التعليم الخاص الذي يلجه اليوم أكثر من 15% من المتمدرسين في المغرب، وحتى داخل التعليم الخاص، فهو درجات ومستويات، حسب الإمكانات المادية للأسر. لذلك، إن كان للقرارات الأخيرة التي ستعود بالتعليم العمومي إلى مرحلة التجريب من ضحايا في المستقبل، فسيكونون من أبناء الطبقات الفقيرة التي لا تستطيع أن تضمن لأبنائها مقاعد داخل المدارس الخاصة أو مدارس البعثات الأجنبية.
أكبر أسباب فشل المنظومة التعليمية في المغرب هو تسييسها واستعمالها أداة في الصراع الأيديولوجي داخل المجتمع. والذي غالباً ما يكون حطبه من أبناء فقراء الشعب الذين يتم التعامل معهم كفئران تجارب.
هذه القاعدة مازال معمولاً بها، حتى اليوم، فوزير التربية والتعليم في الحكومة الحالية التي يقودها الإسلاميون، "تكنقراطي" عينه القصر، وآخر قرار "استراتيجي" اتخذه، والقاضي بفرنسة التعليم الابتدائي في المغرب تم باستشارة مباشرة مع القصر، وليس مع رئيس الحكومة.
وحتى عندما اكتشف رئيس الحكومة الإسلامي، أن وزيره في التعليم اتخذ قراره بفرنسة عدة مواد علمية، مثل الرياضيات والفيزياء في المستويات الابتدائية الأولى، من دون الرجوع إليه، أمره في جلسة أمام البرلمان، كان التلفزيون الرسمي يبثها مباشرة، بالعدول عن قراره الذي لم يتشاور معه فيه. وأمام ملايين المشاهدين المغاربة، قال رئيس الحكومة لوزيره في التعليم، إنه بقراره هذا يريد إشعال نار الفتنة داخل المجتمع، وأمره أن يتراجع فوراً عن قراره. لكن، بعد أسبوعين، سيخرج الناطق الرسمي باسم القصر الملكي، ليعلن على شاشات القنوات الرسمية المغربية أن الملك قرّر تزكية سياسة وزير التعليم. أما رئيس الحكومة فابتلع لسانه ومع حرجه.
جوهر هذا الخلاف يعود إلى القرار الذي اتخذه وزير التعليم بدون العودة إلى رئيسه المباشر، أي رئيس الحكومة، لتدريس مادتي الرياضيات والعلوم الفيزيائية باللغة الفرنسية في مرحلة التعليم الثانوي، بدءاً من العام الدراسي المقبل، وبدأ بالفعل في تجريب قراره في بعض المدارس، ابتداء من الموسم الجاري. وبدخول هذا القرار حيز التنفيذ، يكون المغرب قد بدأ بإغلاق قوس سياسة "تعريب التعليم" الذي بدأها تدريجياً، منذ سبعينيات القرن الماضي، ليعود إلى عهد الفرنسة التي ورثها عن الاستعمار الفرنسي. فطوال العقود الأربعة الماضية، انتهج المغرب سياسة تعليمية هجينة، ظل الصراع فيها ما بين العربية والفرنسية محتدماً، ما أنتج معه أجيالاً من أشباه المتعلمين، لا يتقنون أياً من اللغتين، وأدى إلى تدني مستوى التعليم العمومي، ما أفسح المجال أمام ازدهار التعليم الخاص، مع ما لذلك من تأثير في إفراز تفاوتات طبقية صارخة، أصبحت تخترق المجتمع المغربي، وتوسع الشقة ما بين شرائحه.
ومرة أخرى، عاد التعليم كما كان مجالاً للصراع الأيديولوجي. ففي سبعينيات القرن الماضي،
اليوم، يعتقد كثيرون أن سياسة التعريب والاستعانة بمدرسين من الشرق، أغلبهم من الإسلاميين المضطهدين في بلدانهم، هي التي زرعت بذور المد الإسلامي الكبير الذي يشهده المغرب اليوم. طبعاً، كان منطق الدولة، آنذاك، في الحاجة إلى كبح جماح المد اليساري المتنامي عبر العالم، واعتمد في حربه تلك سياسة النفس الطويل، من خلال العمل على تغيير المنظومة التعليمية، وما تحمله من قيم.
نجحت تلك السياسة في تراجع المد اليساري داخل المجتمع، لكنها ساهمت في المقابل في تنامي المد الإسلامي، إلى درجة أصبح معه هذا المد مزعجاً للدولة، فأملى عليها منطقها مجدداً اللجوء إلى الفرنسة لمواجهة "أسلمة" المجتمع.
ومرة أخرى، يعود استعمال التعليم أداة أيديولوجية في الصراع السياسي داخل المجتمع. لكن، ما نجحت فيه السلطة، أمس، يصعب ضمان نتائجه اليوم. فاللغة الفرنسية تعرف تراجعاً كبيراً في العالم، والقيم التي كانت تمثلها الثقافة الفرنسية، قبل أربعة عقود، ليست هي القيم نفسها التي تحملها هذه الثقافة اليوم.
يُضاف إلى ذلك أن التعليم العمومي الذي كان هو الذي يخرّج أغلب المتعلمين في المغرب، أصبح له منافس كبير، هو التعليم الخاص الذي يلجه اليوم أكثر من 15% من المتمدرسين في المغرب، وحتى داخل التعليم الخاص، فهو درجات ومستويات، حسب الإمكانات المادية للأسر. لذلك، إن كان للقرارات الأخيرة التي ستعود بالتعليم العمومي إلى مرحلة التجريب من ضحايا في المستقبل، فسيكونون من أبناء الطبقات الفقيرة التي لا تستطيع أن تضمن لأبنائها مقاعد داخل المدارس الخاصة أو مدارس البعثات الأجنبية.
أكبر أسباب فشل المنظومة التعليمية في المغرب هو تسييسها واستعمالها أداة في الصراع الأيديولوجي داخل المجتمع. والذي غالباً ما يكون حطبه من أبناء فقراء الشعب الذين يتم التعامل معهم كفئران تجارب.