اقرأ أيضاً: معبر اليمضية... البوابة الأولى لسورية من دون الأسد (1)
عند التجول في داخله يمكن ملاحظة أدوات طبية بسيطة، في ما يبدو النقص الحاد في الكادر الطبي والمعدات واضحاً، في ظل المعارك الملتهبة في جبلي الأكراد والتركمان.
ورغم أنّ المشفى قد خُصص في الآونة الأخيرة للحالات الإسعافية أكثر، إذ يحوّل الجرحى والمصابون غالباً إلى تركيا بسبب صعوبة استقبال الحالات الخطرة، فإن كل شيء يشير في المكان إلى فقره؛ الغرف القديمة شبه المظلمة، والإسعاف الأولي البدائي، والضمادات الموضوعة على الجرحى، وطرق استقبال المصابين.
توجد في مناطق سيطرة المعارضة السورية في ريف اللاذقية أربعة مشاف هي اليمضية، وسلمى للعمليات الجراحية، والإخلاص، والبرناص. الأخير مختص بالأمراض النسائية والتوليد ويحوي حاضنات للأطفال.
على بعد كيلومترات، وبعد تجاوز عدد من الحواجز الثابتة التابعة لـ "الجيش الحر" أو لكتائب إسلامية منها "جبهة النصرة"، والتي يلوّح عند المرور عبرها باليد لعناصر الحاجز دون الاضطرار للوقوف والتفتيش، تصل إلى أحد مقرات "الجيش السوري الحر".
في الداخل، تعلو ضحكات المقاتلين العائدين من المعركة، والمتأهبين للعودة إليها. أثناء التنقل في الريف المحرر، نادراً ما يُلحظ الوجه العبوس لدى قوات المعارضة أو حتى صفوف المدنيين. رغم أن الأنباء لا تبدو مسرّة ، في ظل سيطرة النظام وروسيا على مساحات واسعة من الجبلين (الأكراد، والتركمان)، والقصف الذي لا يكاد يهدأ على معظم الريف الشمالي.
رغم هدوء حركة الطائرات، يُسمع صدى انفجارات متوالية. يخرج المقاتلون، في مشهد يبدو غريباً للزائر ومألوفاً للمقيم، لاستطلاع مصدر هذه الأصوات. وخلال تبادل المقاتلين وجهات النظر حول السلاح المستخدم في الجبهة، التي أجمعوا عليها وهي جب الأحمر التابعة لجبل الأكراد شرقي الريف المحرر، قطع الحديث منظر مروع: كرة ملتهبة في السماء أنارت كامل سماء ريف اللاذقية الشمالي، تهبط تدريجياً وتتفرّع إلى كرات نارية أصغر ليصبح عددها بعد ثوان معدودة بالعشرات، تلتها أصوات انفجارات عنيفة وعبارة "ابن الحرام ضرب عنقودي".
تكسر الأصوات الآتية من "القبضات" اللاسلكية الصمت بعد سكون في المكان. تحولت هذه "القبضات" إلى أهم سلاح لفصائل المعارضة للتواصل فيما بينها. وتستخدم هنا لأغراض عسكرية بحتة، وتعتمد ترددات معينة للتنسيق والتواصل في الجبهات، وتلبي حاجة مجموعة ما ضمن الفصيل المقاتل إلى دعم أو تحذير من تحليق للطيران الحربي السوري أو الروسي وتتواجد هذه "القبضات" عند معظم الفصائل.
يدرك الجميع هنا أن المعركة لن تكون سهلة، وأن النظام يرمي بكل ثقله لاستعادة كامل ريف اللاذقية الشمالي، فيما يبدو وكأنه قرار روسي لحماية النظام من السقوط. يفسر ذلك القصف الذي لا يهدأ، وحشد النظام وفتحه لجبهات عديدة في جبلي التركمان والأكراد، إضافة إلى اعتماده على تكتيك الهجوم للسيطرة على كل منطقة على حدة عبر الضغط الكثيف عليها.
يلاحظ بعد نحو ثلاث سنين على بدء العمل المسلح في ريف اللاذقية الشمالي، التغيير في الجبال الهادئة الممتدة على طول الريف الشرقي والشمالي للساحل. في السابق، وتحديداً منذ خروج جبال الأكراد والتركمان عن سيطرة النظام بعد هجوم واسع لـ "الجيش السوري الحر" في العام 2012، كان هناك قناعة ما تغذيها المعطيات الدولية والإقليمية المعقدة، بالتزام كلا الطرفين مكانهما؛ فباستثناء معركتين سابقتين في الأعوام الثلاثة الماضية، ظل الهدوء سيد الموقف. ومع تدخل روسيا، لم يعد يسمع من صدى في الجبال سواها، ويكاد يغيب اسم رئيس النظام بشار الأسد عن شفاه المقاتلين والسكان، مع غياب مظاهر حكمه على كامل الجبلين.
أثناء التجول في جبال التركمان الشاهقة، صودف مرور مقاتلين في "الفرقة الساحلية الأولى" التابعة لـ"الجيش السوري الحر"، وهي، بحسب نشطاء المنطقة، أكبر قوة عسكرية في ريف اللاذقية الشمالي. يحمّل عناصرها سلاح "التاو" المضاد للدبابات في إحدى السيارات؛ السلاح الذي غير مجرى الكثير من المعارك ضد قوات النظام خصوصاً في حماة.
كان ضمن هذه العناصر شاب قصير القامة، طويل الشعر، أسمر البشرة، أشير إلى أنه يدعى "أبو حمزة تاو"، وقد اكتسب هذا اللقب من كونه الصيّاد الأول للدبابات في الساحل السوري.
يقول أبو حمزة التاو لـ"العربي الجديد" إنه" أطلق نحو 40 صاروخاً أصابت أهدافها في معظمها". لكنه أشار إلى أن "الإصابات المحققة ليست جميعها دبابات، بل أصاب أحياناً جرّافات ومدافع كانت تؤثر على مجرى المعارك".
ويشير المقاتل العشريني إلى أنه "يخرج كل صباح ليرابط على جبهات القتال. وعندما يحصل تقدّم في أي محور للنظام، يرصد الدبابات للتعامل معها"، مؤكداً أنه "يمكن رؤية الدبابة عندما تقصف كثيراً. ننتظر ونراقب عبر المنظار، لأنها إذا ظهرت بسرعة واختفت لا تستطيع اصطيادها"، لافتاً إلى أن "النظام كان في بادئ الأمر يُظهر دباباته علناً، ويقطع الطرقات، وعندما أصبحنا نرميه صار يخبئها، ولم نعد نحقق الإصابات كالسابق. في البدء، كان لكل قذيفة تُرمى دبابة كهدف".
اقرأ أيضاً: 540 دبابة خسرها النظام السوري خلال عام
لا يراقب أبو حمزة ما يجري في لقاءات فيينا ومؤتمر الرياض، لأنه يركز في معركته كما يقول، وخصوصاً في هذا الوقت بسبب تقدم النظام.
عند المضي في جبال التركمان الشاهقة، تُشاهَد أغصان سوداء وفراغات بين الأشجار في كثير من مناطق الجبل، بسبب القصف العنيف، الذي يسبب عادة اندلاع النيران واشتعال الأشجار. يضاف إلى ذلك، اعتماد معظم سكان الجبل على الحطب كوسيلة أساسية للتدفئة في ظل أسعار الوقود المرتفعة، ولذا يلجأ السكان ومقاتلو المعارضة في بعض الأحيان إلى قطع الأشجار لتفادي سيناريو البرد القارص في الخريف والشتاء.
عندما يخيم الليل على الساحل السوري، يبدو المشهد مريباً؛ الطرقات خالية من الإنارة، والبيوت تعيش على مولدات كهربائية، لا تغطي الحاجة. ولا يمكن التمييز معها إن كان أحد يقطن هذا البيت أو ذاك. وتضطر السيارات والدراجات النارية إلى تشغيل أضوائها الخاصة، وقد تسبب ذلك بحوادث عديدة. كما تتصف معظم طرق جبل التركمان بممرات ضيقة تتسع عرضاً لنحو سيارتين، وتحتمل الكثير من المخاطر بسبب وقوع بعضها على هضاب مرتفعة أو سهول وعرة، فيما تحتاج الطرق إلى عناية كبيرة، بسبب التشققات الموجودة على طول الطريق، والمطبات التي قد تعيق الحركة بدلاً من تنظيمها.
لكن بمجرد الوصول إلى الطريق السريع، وهو طريق اللاذقية حلب، تلتقي مع طريق سريع. بحسب أبناء المنطقة، فإن هذا الأوتستراد كان مأجوراً أنشأته منظمة كويتية قبل الثورة السورية، لكن وبعد انقطاع العلاقات مع النظام وسيطرة المعارضة عليه بقي الطريق الرئيسي والأساسي لكتائب المعارضة.
في الطريق السريع الذي يطل على الجهة الجنوبية لمدينة جسر الشغور بريف إدلب الجنوبي، والقسم الأعلى لسهل الغاب بريف حماة الشمالي الغربي، تبدو رؤية الدمار في المباني والجسور واضحة أكثر بسبب اختلاف طبيعة المنطقة، في ظل وجود بيوت متقاربة كون المنطقة سهلية، بخلاف جبال الساحل والتي كانت في غالبها بيوتاً متباعدة بسبب الطبيعة الجبلية.