يوماً وراء يوم تتّسع دائرة الغموض التي تحيط بمدينة درنة الجبلية الليبية ذات الطبيعة الساحرة، وتنتشر شائعات تتحدث عن سيطرة تنظيم القاعدة على المدينة، في ظل محاولات متكررة من قائد محاولة الانقلاب على ثورة 17 فبراير، الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، لشيطنة المدينة، التي وللمفارقة لم يبدأ بها حملته العسكرية الهادفة لتحرير ليبيا من المتطرفين على حد قوله رغم اتخاذها ذريعة لبدء تحركاته التى استهدفت بنغازي وطرابلس بالاساس.
سياق الغموض ومقتل محمد بوبلال، قائد كتيبة شهداء بوسليم المشاركة في القتال ضد قوات القذافي والذي يعتبره ناشطون من المعتدلين والمعترفين بسلطة الدولة، الأسبوع الماضي، دفعنا لتقصي خارطة الميليشيات في درنة عبر شهادات متطابقة لعدد من أهلها ولعدد من الخبراء ذوي الشأن، لننقل في التحقيق التالي ما يجري في المدنية التي تقع شمال شرق ليبيا.
غابت الدولة وحضرت الميليشيات
تشهد درنة حالة من الغياب شبه التام لدور الدولة المركزية، فالمدينة حسب ما يؤكد سكانها، لا تخضع لسلطات الدولة المركزية وليس فيها قوات رسمية تابعة للدولة من جيش أو شرطة، والمظهر الوحيد المنتمي للدولة في المدينة هو المجلس المحلي المنتخب الذي يقوم علي تسيير الأمور الخدمية وشؤون الإدارة المحلية حسب ما ينص على ذلك قانون الإدارة المحلية رقم 59 لسنة 2012، بينما تسيطر الميليشيات المسلحة على كل شؤون المدينة الأمنية والعسكرية.
"بعض هذه الميليشيات لا يعترف بسلطة الدولة ولا يعترف بقوانينها ولا بآلياتها الإدارية التي يعتبرها غير مستمدة من الشريعة الإسلامية"، كما قال أحد الخبراء من أهل مدينة درنة، رفض ذكر اسمه، لـ"العربي الجديد"، خوفاً من الوضع الأمني غير المستقر.
أضاف أن المجموعات الموجودة في درنة أكثر تطرفاً من امتداداتها في باقي المدن الليبية. وتابع قائلاً: "جماعة أنصار الشريعة في درنة، مثلاً، أكثر تشدداً من نظيرتها في بنغازي التي عرف عنها التعاون مع الدولة في مواقف كثيرة".
وتلعب الأعراف القبلية دوراً هاماً في درنة، حيث تُعدّ قانوناً وأداةً لتسوية النزاعات التي تقع في المجتمع، سواء أكانت جرائم قتل عمد أو غيرها من الجرائم بعدما تأسس في المدينة مجلس لفض المنازعات بين المواطنين أشبه بدائرة قضائية عُرفية تقضي بين المواطنين بأحكام "تعزيرية" وفقاً لأحكام للشريعة الإسلامية. ويتخذ المجلس من مقر المجلس المحلي لمدينة درنة مقراً له، وفق شهادات مواطني درنة التي حصلت عليها "العربي الجديد".
وتُتّهم المجموعات المسلحة النافذة بالمدينة عادة بتنفيذ عمليات الاغتيال التي تطال القضاة والعسكريين وبعض موظفي الدولة الذين عملوا إبان حقبة حكم معمر القذافي، وهو ما تنفيه هذه المجموعات وتتهم وسائل الإعلام بالعمل على تشويه صورتها من وراء هذه الاتهامات. لكن الواقع المعاش، كما أفاد خبير من أهل درنة، أن خطاب المجموعات المسلحة وتنظيرها يسوّغان ارتكاب مثل هذه الأعمال، لكن لم تظهر أي أدلة واضحة وقطعية على قيام المجموعات المسلحة بارتكاب عمليات الاغتيال.
وكانت المجموعات المسلحة في درنة قامت بوقف انتخابات لجنة الستين (هيئة صياغة الدستور) عبر تفجير إحدى المجموعات المسلحة، غير المعروفة، معظم مراكز الاقتراع بالمدينة، كما قامت بالتعدي سابقاً على أحد مقرات جماعة الإخوان المسلمين التي تعتبرها هذه المجموعات جماعة منحرفة عن الإسلام، على حد قولهم.
خارطة الميليشيات في درنة
تسيطر على المدينة عدة تشكيلات مسلحة أبرزها كتيبة "شهداء بوسليم" التي توصف، حسب شهادة الناشطين والمتابعين، بأنها أقرب إلى الاعتدال، وسبق أن شاركت في حرب تحرير ليبيا من نظام معمر القذافي. وتقوم الكتيبة على تأمين بعض مؤسسات الدولة مثل المصارف وغيرها من المباني بناءً على تعاقدات أمنية مع الدولة أشبه بتعاقدات الشركات الأمنية.
تشكيل أمني آخر ظهر في المدينة يسمّى "مجلس شورى شباب الإسلام"، والذي عدّه ناشطون جماعة متشددة وغامضة تضم في صفوفها عدداً من العائدين من مالي والجزائر وسوريا وغيرها من مناطق الصراعات والحروب، فيما قام التشكيل بعمل بعض الاستحكامات والبوابات الأمنية في المدينة ويُعرف منتسبوها بكونهم ملثمين، حيث يحرصون على سرية تحركاتهم وسرية هوية منتسبيهم. كما أن في درنة كذلك كتيبة يقودها الجهادي المعروف سفيان بن قمو، رفضت جماعة أنصار الشريعة انضمامها إليها، ومعظم منتسبيها من الشباب صغار السن. بالإضافة الى عدد من الميليشيات صغيرة العدد والتي لا يعرف عددها على وجه الدقة تنتهج العنف وقتل العسكريين والأمنيين ما لم يعلنوا توبتهم من عملهم بالجيش والشرطة أثناء حكم القذافي.
بالمقابل، فإن لخليفة حفتر في المدينة مجموعة من الميليشيات السرية من منتسبي الاستخبارات وجهاز المباحث وضباط جيش القذافي السابقين.
ويوجه بعض خصوم اللواء المتقاعد خليفه حفتر التهمة إليه بشأن تنفيذ الاغتيالات في المدينة لإيجاد مبرر لتحركه، وهو ما وصفه محمد الحجازي، المتحدث باسم قوات حفتر، بأنه "اتهامات تافهة وغير منطقية ولا تستحق الرد عليها".
الحجازي، في الوقت نفسه، قال إن جميع تحركات الموالين لحفتر في المدينة سرية حيث يعملون من خلال غرف سرية من منتسبي الاستخبارات وجهاز المباحث وضباط الجيش نظراً لخصوصية المدينة وسيطرة مَن وصفهم بالمتطرفين والإرهابيين عليها.
وأضاف الحجازي، لـ"العربي الجديد"، أن درنة إمارة من إمارات القاعدة بشكل غير معلن، ولدينا أدلة تفيد بتبعية بعض المجموعات للقاعدة. كما أن عقيدة تنظيم القاعدة وفكره هو عينه فكر بعض المجموعات المسلحة الموجودة في درنة.
ويختلف أحد الكتّاب الصحافيين من أبناء درنة، رفض ذكر اسمه، مع رأي الحجازي حول ما يجري بالمدينة قائلاً: "المشهد الأمني في درنة لا يختلف كثيراً عن باقي المدن الليبية باستثناء عدم وجود قوات رسمية تتبع الدولة من جيش أو شرطة في المدينة".
وأضاف، في شهادته حول ما يجري، لـ"العربي الجديد": تقع في المدينة جرائم بعضها جنائي وأخرى سياسية، تستهدف ضباط الجيش والشرطة سواء ممّن انضموا للثورة أم لم ينضموا، لكن الأوضاع في المدينة عموماً "طبيعية"، وليس من الواقعي القول بأنها مختطفة من قبل ميليشيات مسلحة. فالمسلحون قلة بمدينة يربو عدد سكانها على 80000 نسمة.
تجارة الممنوعات والأزمة
بُعدٌ آخر للأزمة في درنة يتمثل في انتشار تجارة الممنوعات والمخدرات، وفق ما أفادنا به أبناء المدينة، الذين قالوا: "يلعب انتشار تجارة المخدرات دوراً مهماً في صناعة الجريمة في درنة، وكثير من الجرائم تعد جرائم جنائية عادية في الأصل لكن يتم تسويقها على أنها جرائم سياسية"، وهو ما رفضه الناطق باسم ميليشيات حفتر، الذي عاد للقول: "لا ننكر وجود جريمة جنائية كظاهرة موجودة بدرنة، لكنها لا تشكل نسبة تذكر مقارنة بما تقوم به الجماعات الإرهابية التي تستخدم الثارات والمجرمين كغطاء جنائي للتغطية على ما تقوم به من عمليات الاغتيال"، كما يعتقد.
ما بين رأي الناطق باسم حفتر في ما يحدث، والآراء المناوئة، تقف شهادة حسام النويصري، رئيس المجلس المحلي المنتخب لمدينة درنة، في المنتصف بين الرأيين.
النويصري قال، في شهادة مقتضبة من درنة حول الأوضاع وما يجري بها لـ"العربي الجديد": "المسألة تحظى بكثير من المبالغة والتهويل بما يعطي انطباعاً بأن درنى تحولت إلى افغانستان أخرى، فكثير ممّا تروّج له وسائل الإعلام عن المدينة غير حقيقي ولا يعكس مشاكلها".
الجدير بالذكر أن الحكومات المتعاقبة في ليبيا ما بعد ثورة السابع عشر من فبراير 2011، لم تقدم أي حلول لمشاكل مدينة درنة، ابتداءً من حكومة محمود جبريل وحتى حكومة عبد الله الثني، ولم يزر أي مسؤول منها مدينة درنة على الإطلاق.