"العدالة ضد رعاة الإرهاب" ومستقبل العلاقات الدولية

22 أكتوبر 2016
+ الخط -
نشأت الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية فكرة للحفاظ على السلم العالمي، ولجعل دول العالم أكثر تقارباً وميلاً إلى الحوار والتعاون في جميع القضايا، لضمان وقف مزيد من الحروب التي كلفت الدول الكثير، من النواحي البشرية والاقتصادية والعسكرية. ينضم تحت مظلة الأمم المتحدة الآن 193 دولة أعضاء في المنظمة، تحترم هذه الدول المواثيق والالتزامات التي قرّرتها المنظمة، والتي تعتبر ملزمةً للدول الأعضاء، تهدف إلى إيجاد أرضيةٍ تنطلق منها جميع الدول بشكل متساوٍ، وتحفظ لكل دولة مكانتها وسيادتها. من أهم هذه المواثيق والاتفاقيات التي أصدرتها الأمم المتحدة اتفاقية الأمم المتحدة لحصانة الدول وممتلكاتها من الولاية القضائية، والتي نشرت وفتحت للتصديق والانضمام، بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 2 ديسمبر/ كانون الأول 2004. وأهم ما تنص عليه، وهي من 33 مادة، مادتان ينتهكهما قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب (جاستا)، الأميركي الجديد، بشكل مباشر.
تقول المادة الخامسة "تتمتع الدولة، في ما يتعلق بنفسها وممتلكاتها، بالحصانة من ولاية محاكم دول أخرى، رهنا بأحكام هذه الاتفاقية". أما المادة الـ 18 فتقول "لا يجوز اتخاذ إجراءات جبرية سابقة لصدور الحكم، مثل إجراءات الحجز والحجز التحفظي ضد ممتلكات دولةٍ ما، في ما يتصل بدعوى مقامة أمام محكمة دولة أخرى، إلا في الحالات التالية، ونطاقها، إذا كانت الدولة قد وافقت صراحةً على اتخاذ إجراءت من هذا القبيل. وإذا كانت الدول قد خصصت، أو رصدت، ممتلكاتٍ للوفاء بالطلب الذي هو موضوع تلك الدعوى". هذه المواد الصريحة، والتي اتفقت عليها الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة انتهكها الكونغرس الأميركي رسمياً، في إسقاطه مبدأ الحصانة عن الدول، وحجزه المتوقع للأصول والأموال الاستثمارية للدول الأجنبية التي سوف يتم رفع القضايا عليها، انطلاقاً من هذا القانون. قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب الذي شرعه الكونغرس، ونقض الفيتو الرئاسي من أجله، هو عنوان جديد سوف يرسم لنا بنية أخرى لمستقبل العلاقات الدولية.
لم يكن إعلان هذا المشروع في هذا الوقت، والحرص على خروجه بشكل قانون مجرد
مصادفة، فالانتخابات للكونغرس بمجلسيه على الأبواب، وخروج مثل هذه القرارات التي يريد منها الأعضاء ملامسة قلوب الناخبين أحد الأمور، التي تضمن لهم البقاء على مقاعدهم فترة أخرى. فالمعلوم أن انتخابات الكونغرس على ثلث مجلس النواب وثلث مجلس الشيوخ في نوفمبر / تشرين الثاني من السنوات ذات الأرقام الزوجية، ما يعني أن السنة الحالية معركة البقاء. يقول الأستاذ في جامعة ييل، ديفيد مايهيو، في كتابه "الكونغرس في ارتباطه الانتخابي"، إنه من المهم أن نفهم حوافز الأعضاء، لنستطيع أن نفهم القرارات التي يصوّت عليها أعضاء الكونغرس. ثم يعود بعد أن بحث هذه الدوافع، ليقول إن الهدف الرئيسي لتحرّك كل عضو في الكونغرس بمجلسيه تجاه أي قرار هو الرغبة في إعادة انتخابهم. ويوضح مايهيو أنه قد تكون هناك دوافع أخرى، ولكن هذه الدوافع تتصدرها الرغبة في إعادة الانتخاب، قبل أن يفعلوا أي شيء آخر. إذاً، فإصدار مثل هذا المشروع، وتعطيل الفيتو ضده، مرتبط كلياً بفترة الانتخابات، والتي يطمح الأعضاء إلى أن يُعاد انتخابهم فيها، لكن هذه الرغبة في إعادة الانتخاب تجاوزت التحرّك بالشأن الداخلي والقريب من قلوب الناخبين، لتصل إلى التحرك بشكل مضرّ، خارجياً، بمصالح الولايات المتحدة الأميركية، وهادم لبنية العلاقات بين الدول وتركيبتها، ومنتجةً بذلك مفهوماً اَخر، ومستقبلاً غامضاً بالعلاقات الدولية.
بمثل هذا القانون، لا تنتهك أميركا القوانين الدولية بانتهاكها حصانة الدول فقط، بل بانتهاكها أيضاً السيادة الوطنية للدول الأجنبية، من خلال إزالة الحصانة السيادية عنها، والتي كانت تحول دون مقاضاة الدول الأجنبية في المحاكم المحلية، لتجعل بذلك سيادتها أعلى من أية سيادةٍ، ومواطنيها أعلى قيمةً وأكثر قدرةً على مقاضاة الحكومات، من المواطنين في الدول الأخرى.
لا يحمل هذا القانون أضراراً سياسية فقط، بل أيضاً أضراراً اقتصادية، سوف تؤثر، بشكل كبير، على الاقتصاد العالمي. وهذا مرتبط بالنقطة الأهم والأكثر قلقاً لهذا القرار، وهي أن الدول جميعها معرّضة مستقبلاً للمقاضاة من أي مواطن فقط، لمجرد الشك، وهذا يعني أن مفهوم التعاطي بين الدول على شكل حكوماتٍ، والتي تضع الدبلوماسية ومصالح الدول في مقدمة تفاهماتها، قد انتهى، وبدأ عهد جديد من التعامل، يتيح للمواطن العادي مقاضاة من يريد فقط لمجرد شكّه في ارتباط هذه الدولة أو تلك بدعم الإرهاب. وهذا يعني أن القرار لن يبقى في إطاره القانوني فترة طويلة، ولن يتم التعامل معه على هذا الأساس فقط، بل إنه سوف
يتحوّل، مع الوقت، إلى أداة ضغط سياسي، تمارسه أميركا على دولٍ كثيرة، لضمان تمرير مصالحها تجاه أية قضية. ولتجنب حدوث هذا، سوف تؤكد الدول الأخرى، بإصدار قوانين مشابهة، لتتجنب بذلك أية ضغوط أميركية سياسية قد تمارس في المستقبل. ردة الفعل المتوقعة هذه سوف تفقد الدول قيمتها وحصانتها السيادية، التي كانت تتمتع بها، ويكون العالم هنا أشبه بالغابة التي يبتلع فيها الأقوياء الضعفاء، فغياب الحوار والضغوط الدبلوماسية سوف يقود إلى لغة أخرى، هي التلويح بالقوة العسكرية، لتعويض هذا الغياب السيادي. وعلى الجهة الأخرى، لن يكون الاقتصاد أفضل حالاً، جرّاء هذا القرار، فالسياسة دائماً ما كانت مرتبطةً بالاقتصاد. ولهذا، فالحذر بدأ يسيطر على الدول، بعد هذا القرار، وهذا يعني أننا مقبلون على ضعف متوقع في الاقتصاد العالمي، فإصدار مثل هذا القانون، والذي يتيح للقضاء الحجز على الأصول والاستثمارات للدول الأجنبية، حتى انتهاء الدعوى المقامة ضدها، يعني المساهمة، بشكل مباشر، في وقف تدفق هذه الاستثمارات للدول الأجنبية، والتي بالتأكيد سوف تصدر قوانين مشابهة، تتيح فيها لمواطنيها مقاضاة الدول الأجنبية، لوضع الولايات المتحدة الأميركية في الموقف نفسه.
D31AA0A0-280F-4F88-BBF3-3978AEEB86DF
D31AA0A0-280F-4F88-BBF3-3978AEEB86DF
فارس الجربوع

كاتب سعودي متخصص في العلوم السياسية والدراسات الدولية

فارس الجربوع