"العائد": فانتازيا الانتقام والبقاء

21 فبراير 2016
(مشهد من الفيلم)
+ الخط -

يبدو أن المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليز إيناريتو، عاد هذا العام لتحقيق قصة نجاح أخرى من خلال فيلمه الجديد "العائد"، في وقت لم ينته فيه بعد الحديث عن فيلمه "الرجل الطير" الذي أخرجه العام الماضي.

اختار إيناريتو هذه المرة قصّة ملحمية، عن أحداث حقيقية تصف رحلة العودة من الموت، التي قام بها تاجر الفراء هيو غلاس في ظروف مميتة، والمقتبسة عن عمل للروائي الأميركي مايكل بونك، مقتبسة بدورها عن قصة حقيقية وقعت أحداثها عام 1823، وتحكي بالكثير من التفصيل الظروف القاسية التي كابدها غلاس (تمثيل ليوناردو دي كابريو) الذي عمل مرشداً لفرقة صيد كبيرة.

أثناء قيام غلاس بجولة استطلاعية وحيداً، تهاجمه أنثى دب ضخمة بعد أن صوّب بندقيته نحو صغيرها. وفي مشهد ربما يكون الأكثر قيمة وقسوة في الفيلم، يتعرّض غلاس لهجوم عنيف من هذا الحيوان المفترس، ويستطيع بعد جولات من العراك أن يقتل الدب، ثم يسقط بين الحياة والموت، غير قادر على الحركة أو الكلام، مكسّر الأطراف، وفقط يستطيع تحريك عينيه.

حالة غلاس الميؤوس من نجاته، أحيت حقداً دفيناً عليه لدى جون فيتزجيرالد (تمثيل توم هاردي) الذي أصرّ على قتل غلاس لتخليصه من آلامه، ولولا معارضة الكابتن أندرو (تمثيل دونال غليسون) لفعل ذلك وهو سعيد.

تناوب الجنود على حمل غلاس، وبعد ازدياد صعوبة الرحلة قرّر الكابتن أندرو قتله، لكنه في لحظة سيتراجع ويتركه برفقة هوك؛ نجل غلاس، وبريدجر وفيتزجيرالد. خوف فيتزجيرالد من مطارديهم من الهنود المقاتلين، جعله يسرع في دفن غلاس حياً، بعد أن قتل ابنه أمام عينيه، ثم تركه وسط الغابة لمصير مجهول.

من هنا، بدأ غلاس رحلته المستحيلة مع النجاة مستنداً إلى عصا ومرتدياً فروة الدب الذي قتله؛ فيشاركه هندي وجبة لحم نيئة وينقذه من الموت برداً، وحين يجده غلاس مشنوقاً، يستعمل حصانه للهرب. وفي مشهد آخر لافت، يسقط غلاس مع الحصان من حافة عالية، يموت الحصان ويبقى غلاس، فيفرغ الحصان من أحشائه ويختبئ داخله في ليلة شديدة البرودة. يستمر غلاس في الزحف حتى يصل إلى حدود معسكره، ويطارد فيتزجيرالد، انتقاماً لمقتل ابنه.

سيناريو فيلم "العائد" الذي كتبه إيناريتو بالشراكة مع مارك لي سميث، يختار مساراً سردياً بسيطاً، قياساً لنوعية القصص المتشابكة التي عمل عليها صاحب "بابل" في السابق، ليست هناك مداخل متعددة أو مباغتة، أو تشعبات تغني خط السير الأحادي لرحلة غلاس، كل ما في الأمر هو تتبّع لحركات وسكنات الشخصية المحورية والتقاط لتفاصيل معركتها من أجل البقاء.

وإذا استثنينا بضع دقائق في بداية الفيلم عن هجوم مجموعة من الهنود على معسكر فرقة الصيد، فكل الأحداث التالية لذلك تتعلق بغلاس فقط، في مدّة طويلة (ساعتان و36 دقيقة). ما يلاحظ هنا حول الحبكة، يمكن تعميمه أيضاً على جوانب فيلمية أخرى، كالفضاء الذي لم يوفر أي تنوع جغرافي غير قمم الثلج والأشجار، وهو ما حدّ أيضاً من تنوّع مصدر الألوان.

رغم ذلك، استطاعت القصّة أن تملك سحرها الخاص، وأن يترشح "العائد" لـ 12 فئة من جوائز الأوسكار المقبلة، من بينها أفضل مخرج وأفضل ممثل وأفضل فيلم، إضافة إلى فوزه بثلاث جوائز غولدن غلوب.

وفي ضوء رؤية إيناريتو الفنية، حوّل مدير التصوير إيمانويل لوبيسكي (الذي جمعته أعمال أخرى بايناريتو منها عملهما الأخير "الرجل الطير") الفيلم إلى ملحمة بصرية، تتفوّق فيه تعبيرية المشهد على كل الجوانب الأخرى، فالالتقاطات العبقرية للفضاء؛ كوطن للهنود بطبيعته التي تشبه براءة السكان الأصليين، ظهرت عبر انسيابية الكاميرا وتجولها بين المياه والأشجار.

الفضاء أيضاً تحوّل بصورة معكوسة إلى مكان معادٍ في وجه المستعمر. لوبيسكي ساهم كثيراً في إبراز قوة الدور الذي لعبه ديكابريو، خصوصاً في لحظات تذكّر زوجته، أو صراعه مع الدّب، أو هربه سباحة عبر النهر، أو مشهد سقوطه من الحافة، فظهر من فوق، هو وحصانه الميت مثل لوحة فنية يشكل فيها اللونين الأبيض والأسود حواراً متناغماً بين الحياة والموت.

جمع عمل لوبيسكي في "العائد" بين الكيفية التي أدار بها تصوير فيلم "شجرة الحياة" و"العالم الجديد" اللذين جمعاه مع المخرج ترينس ماليك سابقاً.

وعلى الرغم من أن "العائد" هو قصّة عن الانتقام والصراع من أجل البقاء، إلّا أنه لم يخل من تذكير بما تعرّض له الأميركيون الأصليون. الفيلم قدّم عبر حواراته ومشاهده صورة عن عبث المستعمِر بتلك الأرض وأهلها، وبرّر، أيضاً، أحقية الدفاع عن الأرض والعائلة. هذه فكرة حملها بطل الفيلم، دي كابرو، معه إلى حفل الـ "غولدن غلوب" الأخير، وخلال تسلّمه جائزة أفضل ممثل، لم يفته تأكيد وجوب التفات السينما إلى قصص السكان الأصليين.

وفي ما يخص دي كابريو، فقد حظي باهتمام بالغ بعد نزول الفيلم إلى صالات السينما، بل إن الاهتمام بالدور الذي أدّاه تجاوز الاهتمام بالفيلم. واحتمالية فوزه بالأوسكار بعد خمس ترشيحات سابقة، تبدو طاغية هذه المرّة، لعدم حضور أسماء قادرة على حرمانه من الجائزة كما في المواسم السابقة. وباستثناء مات ديمون كمنافس مزعج، ليس هناك اسم آخر.

دي كابريو كابد مصاعب كثيرة أثناء تصوير الفيلم، خصوصاً عمل الطاقم في نسبة درجة حرارة منخفضة جداً، وظروف طبيعية حقيقة، جعلت عمله استثنائياً هذه المرة.



اقرأ أيضاً: جوّع كلبك.. أسلاك شائكة تحرس القصة

المساهمون