يعيدني التحضير لكتابة هذه الزاوية أحياناً إلى أيام خلت، في ما يمكن اعتباره حالة حادّة من النوستالجيا التي تعني على وجه الدقّـة الحنين إلى الماضي، بما هو مفقود في الحاضر.
والعودة هذه المرة ستكون إلى المسرح، وإلى موضوع توظيف "الصمت" فيه، ولا سيما أنني خضت بنفسي غمار مثل هذه التجربة قبل عقد ونصف العقد، من خلال عمل مسرحي صامت توليت "تأليفه" وأسميته "مرايا" (أو "مسرحية جديدة")، اعُتبر آنذاك محاولة للخروج عن المألوف في الإبداع المسرحي عندنا، مع الإشارة إلى أنها محاولة تستمدّ مشروعيتها أيضاً من مجموعة وجوه مسرحية شابة تضافرت جهودها في أغلبية أعباء هذا العمل، من أجل إنجازه على أكمل وجه، في إطار مسرح صغير تأسّس في إحدى قرى الجليل الفلسطيني؛ قرية المغار.
وجرى إشهار "مرايا" بأنها "تمسرح الصمت". من هنا فهي مسرحية جديدة، رائدة، في فضائنا الثقافي. وشخوصها تؤدّي اللعبة المسرحية على الحدود الواصلة بين الخاصّ والعامّ، الذاتي والموضوعي، المحلي والكوني.
وقد استهوتنا فكرة أنه في زمان الكلام الفائض عن الحدود بديلاً عن الأفعال، يصبح الصمت أجدى، لا بدلالة السكوت عن الشيء الذي يحيل إلى العجز عن الحركة والمبادأة، وإنما بدلالة أن الصمت قد يكون في حالات معينة أكثر بلاغة من أي كلمات في توصيل مقولات فنية وذهنية صافية وصريحة حيال ظواهر سقوط الإنسان في الإنسان، وارتياد المراكب السهلة، واللهاث وراء تكريس السائد والمبتذل والشائع. وكذلك بدلالة أن الصمت يشكل فرصة لاستنفاد سائر الأدوات الفنية في المسرح عدا النص المكتوب، من حركة وموسيقى وتعابير للجسد والوجه تتجاور وتتحاور مع السينوغرافيا، وهي الأدوات التي يُستعاض عنها أحياناً بل وغالباً بالكلام المصفوف، ولا شيء أكثر من ذلك.
بناء على ذلك حاولت "مرايا" أن تبني حالاتها المسرحية كذلك من جوانيّة الممثل وهواجسه، حيال ذاته وحيال ما يحيط به من واقع ووقائع تلوّن منتهى طريق دخوله معترك الإبداع الفني. كأن ذاك قوس دائرة يعود بها إلى مبتداها. فيها الديالوغ الذي لا يلغي المونولوغ، بين صوت ودواخله، مع مراعاة أن يكون ذلك بالقدر الذي يضيء مساحة معتمة ويمهد لتحوّل درامي، أو أن يكون مندغماً في لحظة التحوّل تلك.
اقرأ أيضاً: من الأوّل، الوعي المزدوج
في واقع الأمر، لم تكن عملية مسرحة الصمت هذه من ابتكارنا. فقد سبق أن التجأ إليها في ذلك الوقت عدد من المسرحيين العرب وغير العرب. وعربياً كانت بلغت منجزاً مخصوصاً في تونس مثلاً، حسب ما انعكست في تجارب مبدعين مسرحيين، مثل محمّد إدريس وتوفيق الجبالي وغيرهما من فناني المسرح التجريبي الحديث في هذا البلد. وقد راودتنا تحت وطأة حالة سيولة عامة آل إليها الكلام في عديد مضامير الحياة من دون مقدرة ملفتة على تجاوز وضعية أننا بصدد مجرّد كلمات... كلمات... كلمات، على حدّ قول هاملت.
الآن يمكنني أن أجزم أن تجربة "مرايا" لم تنجح كثيراً، برغم أن بعض النقد اعتبرها مسرحية ممتعة، وبمنزلة امتحان عصيب للمشاهد المسرحي في قدرته على نبذ المتداول وفتح عينيه وأذنيه على وسعيهما، لتلقي ما حضّره له طاقم المسرحية من مفاجآت وتحديات لبلادته الذهنية المسؤول عنها وبشكل قاطع مسرحنا المحلي. كما أنها لم تنجح كثيراً لأن هذا المشاهد في معظمه لم يكن قد تجاوز مرحلة "عبادة الكلمة" في المسرح، على حدّ قول الكاتب المسرحي المصري ألفرد فرج.
لكن بمن تأثرنا في ذلك الوقت قبل عقد ونصف العقد؟
أظن أنني تأثرت أكثر شيء بمسرحية "فمتلا" لتوفيق الجبالي التي عرضت لأول مرة سنة 1992. و"فمتلا" تعني "أفهمت أم لا؟"، وهي تبدأ وتنتهي بصورة توحي بالجدب والظلام وبأن كارثة ما قد أفنت العالم، وتنتمي شكلاً ومضموناً إلى ما يسمى بـ "الأنتي تياتر"- المسرح ضدّ المسرح. و"الحدث" أو "الحبكة" عبارة عن سلسلة من المحاولات الدؤوبة لفكّ حصار الصمت والسكون والعزلة التي تبوء كلّها بالفشل، بدءاً بمحاولة التواصل الجسدي وانتهاءً بمحاولة التواصل بالرؤية وبالإبصار مروراً بمحاولة التواصل الصوتي.
وبموجب ما قرأته في حينه عن هذه التجربة، عندما باشر الجبالي تنفيذ "فمتلا"، كان بين يديه نصّ من عشرات الصفحات، راح يتضاءل مع كلّ جلسة عمل جديدة، حتّى لم يبقَ منه كلمة واحدة بعد أسابيع من التمارين، فراح يقشّر الحوارات والكلمات، إلى أن وجد نفسه أمام احتفال عار، أخرس، صامت وجامد.
وكان معظم النقد الذي كتب حول "فمتلا" خلُص إلى أن عالم الجبالي في هذه المسرحية، يعبّر في العُمـق عن لا جدوى الأشياء وعبث الوجود، وأن مسرحه عموماً يدور حول أزمة التعبير وصعوبة القول واستحالة التواصل.
فما الذي تغيّر منذ تلك التجربة التي عايشها المسرح العربي قبل أكثر من عقدين، عندما وقع في براثن الصمت فحاول الإفلات منها بالصمت؟
والعودة هذه المرة ستكون إلى المسرح، وإلى موضوع توظيف "الصمت" فيه، ولا سيما أنني خضت بنفسي غمار مثل هذه التجربة قبل عقد ونصف العقد، من خلال عمل مسرحي صامت توليت "تأليفه" وأسميته "مرايا" (أو "مسرحية جديدة")، اعُتبر آنذاك محاولة للخروج عن المألوف في الإبداع المسرحي عندنا، مع الإشارة إلى أنها محاولة تستمدّ مشروعيتها أيضاً من مجموعة وجوه مسرحية شابة تضافرت جهودها في أغلبية أعباء هذا العمل، من أجل إنجازه على أكمل وجه، في إطار مسرح صغير تأسّس في إحدى قرى الجليل الفلسطيني؛ قرية المغار.
وجرى إشهار "مرايا" بأنها "تمسرح الصمت". من هنا فهي مسرحية جديدة، رائدة، في فضائنا الثقافي. وشخوصها تؤدّي اللعبة المسرحية على الحدود الواصلة بين الخاصّ والعامّ، الذاتي والموضوعي، المحلي والكوني.
وقد استهوتنا فكرة أنه في زمان الكلام الفائض عن الحدود بديلاً عن الأفعال، يصبح الصمت أجدى، لا بدلالة السكوت عن الشيء الذي يحيل إلى العجز عن الحركة والمبادأة، وإنما بدلالة أن الصمت قد يكون في حالات معينة أكثر بلاغة من أي كلمات في توصيل مقولات فنية وذهنية صافية وصريحة حيال ظواهر سقوط الإنسان في الإنسان، وارتياد المراكب السهلة، واللهاث وراء تكريس السائد والمبتذل والشائع. وكذلك بدلالة أن الصمت يشكل فرصة لاستنفاد سائر الأدوات الفنية في المسرح عدا النص المكتوب، من حركة وموسيقى وتعابير للجسد والوجه تتجاور وتتحاور مع السينوغرافيا، وهي الأدوات التي يُستعاض عنها أحياناً بل وغالباً بالكلام المصفوف، ولا شيء أكثر من ذلك.
بناء على ذلك حاولت "مرايا" أن تبني حالاتها المسرحية كذلك من جوانيّة الممثل وهواجسه، حيال ذاته وحيال ما يحيط به من واقع ووقائع تلوّن منتهى طريق دخوله معترك الإبداع الفني. كأن ذاك قوس دائرة يعود بها إلى مبتداها. فيها الديالوغ الذي لا يلغي المونولوغ، بين صوت ودواخله، مع مراعاة أن يكون ذلك بالقدر الذي يضيء مساحة معتمة ويمهد لتحوّل درامي، أو أن يكون مندغماً في لحظة التحوّل تلك.
اقرأ أيضاً: من الأوّل، الوعي المزدوج
في واقع الأمر، لم تكن عملية مسرحة الصمت هذه من ابتكارنا. فقد سبق أن التجأ إليها في ذلك الوقت عدد من المسرحيين العرب وغير العرب. وعربياً كانت بلغت منجزاً مخصوصاً في تونس مثلاً، حسب ما انعكست في تجارب مبدعين مسرحيين، مثل محمّد إدريس وتوفيق الجبالي وغيرهما من فناني المسرح التجريبي الحديث في هذا البلد. وقد راودتنا تحت وطأة حالة سيولة عامة آل إليها الكلام في عديد مضامير الحياة من دون مقدرة ملفتة على تجاوز وضعية أننا بصدد مجرّد كلمات... كلمات... كلمات، على حدّ قول هاملت.
الآن يمكنني أن أجزم أن تجربة "مرايا" لم تنجح كثيراً، برغم أن بعض النقد اعتبرها مسرحية ممتعة، وبمنزلة امتحان عصيب للمشاهد المسرحي في قدرته على نبذ المتداول وفتح عينيه وأذنيه على وسعيهما، لتلقي ما حضّره له طاقم المسرحية من مفاجآت وتحديات لبلادته الذهنية المسؤول عنها وبشكل قاطع مسرحنا المحلي. كما أنها لم تنجح كثيراً لأن هذا المشاهد في معظمه لم يكن قد تجاوز مرحلة "عبادة الكلمة" في المسرح، على حدّ قول الكاتب المسرحي المصري ألفرد فرج.
لكن بمن تأثرنا في ذلك الوقت قبل عقد ونصف العقد؟
أظن أنني تأثرت أكثر شيء بمسرحية "فمتلا" لتوفيق الجبالي التي عرضت لأول مرة سنة 1992. و"فمتلا" تعني "أفهمت أم لا؟"، وهي تبدأ وتنتهي بصورة توحي بالجدب والظلام وبأن كارثة ما قد أفنت العالم، وتنتمي شكلاً ومضموناً إلى ما يسمى بـ "الأنتي تياتر"- المسرح ضدّ المسرح. و"الحدث" أو "الحبكة" عبارة عن سلسلة من المحاولات الدؤوبة لفكّ حصار الصمت والسكون والعزلة التي تبوء كلّها بالفشل، بدءاً بمحاولة التواصل الجسدي وانتهاءً بمحاولة التواصل بالرؤية وبالإبصار مروراً بمحاولة التواصل الصوتي.
وبموجب ما قرأته في حينه عن هذه التجربة، عندما باشر الجبالي تنفيذ "فمتلا"، كان بين يديه نصّ من عشرات الصفحات، راح يتضاءل مع كلّ جلسة عمل جديدة، حتّى لم يبقَ منه كلمة واحدة بعد أسابيع من التمارين، فراح يقشّر الحوارات والكلمات، إلى أن وجد نفسه أمام احتفال عار، أخرس، صامت وجامد.
وكان معظم النقد الذي كتب حول "فمتلا" خلُص إلى أن عالم الجبالي في هذه المسرحية، يعبّر في العُمـق عن لا جدوى الأشياء وعبث الوجود، وأن مسرحه عموماً يدور حول أزمة التعبير وصعوبة القول واستحالة التواصل.
فما الذي تغيّر منذ تلك التجربة التي عايشها المسرح العربي قبل أكثر من عقدين، عندما وقع في براثن الصمت فحاول الإفلات منها بالصمت؟