"كنت أنتظر هذا منذ سنوات، في تلك الأيام السوداء، كنت أتساءل: هل سأحيا لأرى الأكراد والأتراك يعيشون معاً بوحدة وسلام. لقد حصل ذلك، لا رصاص بعد الآن. صراعاتنا ستنتقل إلى البرلمان"، كلمات عفوية تناقلتها التلفزيونات التركية ووكالات الأنباء للمواطن إرسين تاش (63 عاماً) من مدينة دياربكر، قد تصلح لاختصار كل ما حدث يوم فرز الأصوات ونجاح حزب "الشعوب الديمقراطي" الكردي بثمانين صوتاً في انتخابات يوم الأحد الماضي في تركيا.
اقرأ أيضاً تركيا قديمة جديدة: خارطة سياسية يحوم فوقها شبح التسعينيات
بهذا الانتصار، لم يعد حزب "الشعوب الديمقراطي" مجرد جناح سياسي لـ"العمال الكردستاني"، بل أصبح ائتلافاً يسارياً تركياً واسع الطيف، يضم في جنباته اليساريين الأكراد والأتراك، والعلويين ومجموعات من "الخضر" والليبراليين والناشطات النسويات ومثليي الجنس. ليس من المبالغة القول إنّه بات خلطة لا مثيل لها بخطاب يساري منفتح داعٍ إلى السلام ضم من خلاله كتلة تصويتية واسعة من اليمين الكردي والتركي المحافظين لأول مرة، ليبدو وكأنه حزب مهمشي الجمهورية التركية وليس الجناح السياسي لحزب "العمال الكردستاني".
الحزب التاسع
يعتبر "الشعوب الديمقراطي" الذي تأسس عام 2012، الحزب التاسع في تاريخ المشاركة السياسية لحزب "العمال الكردستاني"، في العملية السياسية التركية، والتي بدأت مع حزب "عمل الشعب" عام 1990، والذي استطاع الحصول على 22 مقعداً في البرلمان التركي خلال انتخابات عام 1991. جرى بعدها حظر الحزب من قبل المحكمة الدستورية عام 1993، لتدخل الحركة السياسية لـ"العمال الكردستاني" في مسيرة من إنشاء وحلّ مجموعة من الأحزاب السياسية التابعة له بقرارات من المحكمة الدستورية بتهمة دعم "المنظمة الإرهابية" أي "العمال الكردستاني"، وكان آخرها حزب "المجتمع الديمقراطي" الذي تم حله عام 2009. أما الحزب الثامن أي "السلام والديمقراطية"، والذي حقق نجاحاً كبيراً عام 2011 بحصوله على 37 نائباً في البرلمان، فقد تم حله بقرار من زعيم "العمال الكردستاني"، عبد الله أوجلان، بعد الانتخابات البلدية العام الماضي بافتراض انتهاء مهمته التي كانت تنحصر في العمل على إيجاد حل ديمقراطي للقضية الكردية في تركيا، ليمثل "الشعوب الديمقراطي" النسخة الأخيرة من مراجعات أوجلان في النضال من أجل الحصول على حقوق الأكراد، لكن عبر مقاربة وطنية تركية تجعل القضية الكردية إحدى قضايا الطبقات المهمشة الأخرى، التي لا بد من العمل لأجلها. ويطلق على هذه المقاربة في الإعلام التركي "تتريك الحركة القومية الكردية"، إذ أصبحت القضية الكردية إحدى قضايا الشأن الداخلي التركي وليست جزءاً من حركة انفصالية لطالما مثلها "العمال الكردستاني"منذ الثمانينيات.
لم يكن "الشعوب الديمقراطي" الذي حاز على ما يقارب 13 في المائة من الأصوات تحولاً مفصلياً في مقاربة القضية الكردية فحسب، بل شكل خطابه "ثورة" في الخطاب السياسي التركي، وإن كان حزب "العدالة والتنمية" قد فتح المجال لخطاب سياسي تركي متسامح مع الاختلافات الإثنية ضمن الأمة، وذلك عبر الاعتراف، ولو بشكل لفظي، بوجود أقليات إثنية كالأكراد والعرب والشركس واللاز.
اقرأ أيضاً: أوغلو يهاجم "الشعوب الديمقراطي" ويشدّد على دستور جديد
وجاء "الشعوب الديمقراطي"، بتوجهاته اليسارية، ليعمق هذا الطرح الديمقراطي بالحديث عن "شعوب متمايزة متحدة ضمن الأمة التركية"، وذلك بعدما هيأ "العدالة والتنمية" الأرضية المناسبة لذلك، عبر توجيهه الضربة القاضية للدولة العميقة الكمالية الشوفينية التي قامت على العصبية القومية التركية السنية العلمانية، من خلال عمليتي الإرغنكون والمطرقة ضد ضباط الجيش والعسكر.
بدأت المراجعات بإجراء مصالحة كردية كردية بقيادة صلاح الدين دميرتاش في فترة حزب "السلام والديمقراطية" (النسخة الثامنة من أجنحة الكردستاني)، أي بين ما كان يمثله من القاعدة اليسارية القومية الصلبة لحزب "العمال الكردستاني" من جهة، مع الكتلة اليمينة الكردية الإسلامية المحافظة من جهة ثانية، لتبدأ بإعطاء ثمارها خلال الانتخابات البرلمانية عام 2011 عبر النجاح الذي حققه الحزب بالحصول على 36 مقعداً في البرلمان كمستقلين، لتستمر إلى حين الانتخابات البلدية في مارس/ آذار 2014 بالتقدم الواضح الذي حققه في السيطرة على عدد كبير من بلديات مدن جنوب وشرق الأناضول ذي الغالبية الكردية، لتصل ذروتها قبل أيام مع النجاح الكبير الذي حققه "الشعوب الديمقراطي" في الحصول على معظم المقاعد النيابية في المناطق ذات الغالبية الكردية على حساب "العدالة والتنمية"، والتي كان أهمها الحصول على 10 من أصل 11 مقعداً نيابياً مخصصاً لولاية دياربكر، عاصمة الحركة القومية الكردية، وأيضاً عبر سحب ولاية تونجلي (ديرسيم) من يد حزب "الشعب الجمهوري".
مصالحات وتحالفات
وفي سبيل ذلك، عمد "الشعوب الديمقراطي" إلى اتخاذ خطوات كبيرة في مجال التصالح مع الكتلة اليمينية الكردية على عدد من المستويات، فاعتمد سياسات أكثر مرونة اتجاه المتديّنين، وعمل على جذب الشخصيات الدينية البارزة للانضمام إلى صفوفه، وتصالح مع بعض العشائر الكردية التي كانت تشكل جزءاً مهماً من قوات حرس القرى التي شكلها الجيش التركي لمواجهة "العمال الكردستاني"، ومنها عشائر الرامان في ولاية باتمان، ودعم جماعات المجتمع المدني الإسلامية في مدينة دياربكر، ونظم ورش عمل حول الإسلام والمعاناة القومية الكردية، ورشح على قائمته محجبات وشخصيات دينية كردية، ونظم احتفالات ضخمة بمناسبة عيد المولد النبوي في مدينة دياربكر وعشرين بلدة ومدينة أخرى من تلك التي يسيطر على بلدياتها. وحقق على إثرها نجاحاً كبيراً بالتحالف مع حركة آزادي، وهي حركة مجتمع مدني كردية إسلامية لها ثقل كبير في الكتلة اليمنية الكردية، تساند عملية السلام وتطالب بالاعتراف بالشعب الكردي كأحد مؤسسي الجمهورية، مع إبقاء فكرة إنشاء برلمان محلي على طاولة الحوار. ورشحت الحركة على قائمة "الشعوب الديمقراطي" خمسة مرشحين من بينهم مفتي دياربكر، نعمة الله إردوغموش، وفاز اثنان من مرشحي الحركة وهم المفتي إردوغموش والنائبة المحجبة سحر أكشنار عن ولاية أرضروم، كما تمت إعادة انتخاب النائب التان تان (كردي محافظ) وأحد أعضاء حزب "الرفاه" السابقين عضواً في البرلمان. كذلك وصل عن قائمة "الشعوب الديمقراطي"، إلى البرلمان، المرشح الرئاسي السابق عن حزب "الفضيلة"، وأحد مؤسسي "العدالة والتنمية" ورئيسه السابق دنغير مير محمد فرات.
ومع بداية الانتخابات البرلمانية الحالية، عمد "الشعوب الديمقراطي" إلى التأكيد على خطابه المنفتح، وتبنى مظلومية العلويين البكداشيين، والذين يطالبون بالاعتراف ببيوت الجمع كدور عبادة رسمية تتلقى دعماً من الحكومة، وأيضاً إلغاء دروس التعليم الديني الإجبارية التي تعتمد المذهب السني الحنفي أو إعفاءهم منها، إضافة إلى تمثيلهم في إدارة الشؤون الدينية كإحدى الأقليات الإسلامية.
ووصل إلى البرلمان على قائمته عدد من المرشحين العلويين البكداشيين، ومنهم عن مدينة إزمير كل من النائب مسلم دوغان، رئيس إحدى الجمعات العلوية في إزمير، والمخرجة جيلم أوز، والنائب علي كنان أوغلو، والنائب تورغوت أوكار عن اتحاد الجمعيات العلوية في أوروبا.
وعن التيار الإسلامي التركي، وصلت عضو اللجنة المركزية للشعوب الديمقراطي، الناشطة الإسلامية السابقة المعروفة هدى كاية، وعن الأرمن كان اليساري المعروف عضو اللجنة المركزية للشعوب الديمقراطي غارو بايلان. كذلك حملت قائمة "الشعوب الديمقراطي" أول نائبين يزيديين في تاريخ الجمهورية؛ هما النائبة فلك ناز أوجان والنائب علي أتالان، وأيضاً تمت إعادة انتخاب إرول دورا النائب السرياني عن ماردين، إضافة إلى مرشحين عشائرين مثل محمود جلادات عن بيتليس، وأيضاً بيروقراطيين مثل الوالي السابق إردال أتاش، والنائب السابق عن "الشعب الجمهوري" في عنتاب، جلال دوغان.
وجوه يسارية
كذلك تبنّى "الشعوب الديمقراطي" إطروحة اقتصادية ماركسية مبنية على معارضة السياسات النيوليبرالية لحكومة "العدالة والتنمية"، وإن لم تكن واضحة بما يكفي لتتحول إلى برنامج اقتصادي متكامل، فحصل عن التيار اليساري التركي في ولاية أضنة على مقعدٍ عبر رضوان طوران رئيس الحزب الديمقراطي الاشتراكي (ماركسي تروتسكاوي)، وعن مدينة أنطاليا كان ساروخان اولوتوش عضو حزب "الحرية والتضامن" (يساري تركي تروتسكاوي)، وعن إسطنبول من المثقفين الماركسيين الأتراك كان أستاذ العلوم السياسية سيزاي تملي، وعن إزمير كان اليساري التركي المعروف إرطغرول كوركوجو.
وضمت قائمة نواب "الشعوب الديمقراطي" عدداً مهماً من المحامين الذي عملوا مع دميرتاش في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، مثل النائب عن ولاية أغري بدر الدين أوزتورك، وعن الخضر كانت النائبة أمينة بيضاء أوستون، وعن الناشطات النسويات كانت النائبة فيليز كارِستجي أوغلو في إسطنبول.
التحديات الآتية
يواجه "الشعوب الديمقراطي" بعد هذه النتيجة الكثير من التحديات؛ أولها، أن إدارة تحالف قوى منوعة لهذه الدرجة لن يكون بالأمر السهل.
ثانياً، إن العلاقة ستكون تبادلية، فأصوات الأتراك التي حصل عليها الحزب ليست بالقليلة ولم يعد بالإمكان إهمالها، بل ستفرض أجندتها هي الأخرى على "الشعوب الديمقراطي"، فلم يعد التلويح بالعودة إلى العمل العسكري أمراً ممكناً، وبالتالي سيكون "العمال الكردستاني" أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الالتزام بدعوة أوجلان لوقف النضال المسلح والبدء بالنضال الديمقراطي وبالتالي إلقاء السلاح وحل المليشيا المسلحة، الأمر الذي يبدو غير ممكن في ظل تورط الأخير في المعركة مع تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) على مختلف الجبهات، أو الصمت والابتعاد عن الشأن التركي.
من جهة ثانية، اعتبرت شريحة واسعة من الأكراد القوميين في تركيا ممثلة بأنصار "الكردستاني"، أن الانتصار الأخير لهم وحدهم. لكن نجاح "الشعوب الديمقراطي" كان من جهة أخرى ضربة قوية أيضاً للتيار القومي الشوفيني في "العمال الكردستاني" الذي يبدو بأنه لم يعِ تماماً مقدار التحول؛ لقد أصبح العلم التركي يرفرف فوق مقرات الحزب، ولم تعد العاصمة دياربكر بل باتت الأنظار موجهة إلى أنقرة الآن، الأمر الذي أشار إليه الزعيم المشارك للحزب صلاح الدين دميرتاش بعد إعلان النتائج مباشرة، قائلاً إن "الانتصار هو انتصار لليسار في تركيا"، مضيفاً "سنبقى في المعارضة، وكما وعدنا لن ندخل في أي حكومة ائتلافية مع العدالة والتنمية، إن هدفنا المقبل سيكون تشكيل الحكومة بمفردنا".
وإن نجح "الشعوب الديمقراطي" خلال السنوات المقبلة في الوصول إلى الحكومة، فإن رؤيته وحركته السياسية لن تكون من باب المصالح الكردية أو الكردستانية، بقدر ما ستكون من باب مصالح الأتراك جميعاً، الأمر الذي يخلق الكثير من التحديات في إدارة العلاقات مع أجزاء ما يسمى "كردستان التاريخية" الأربعة.
وإن نجح "الشعوب الديمقراطي" في الاستمرار بنهجه وخطابه الديمقراطي المنفتح، فليس من المبالغ فيه القول إن الأخير يؤسس لجمهورية تركية ثالثة بعد الجمهورية الثانية التي قادها "العدالة والتنمية"؛ جمهورية تستعيد روح الميثاق الملي بمؤسسيها "العثمانيين" الأوائل الذين انقلب عليهم أتاتورك وهمّشهم، من متدينين وأكراد وباقي الأقليات الأثنية.