يُقال إنها قاتلة، تلك العلب البيضاء المخطّطة باللون الرمادي أو الأحمر، أو تلك الرمادية التي تخرقها خطوط سوداء قاتلة، وغيرها. يعرفُ المدخّنون الحقيقة العلمية هذه، المتلذّذون منهم بسيجارة إلى خمس في اليوم، وأولئك الشرهون. يبدو الأمرُ إدماناً على متعة، أكثر منه على جميع تلك المواد الموضوعة داخل ورقة بيضاء ملفوفة بعناية. بالنسبة إليهم، هي لحظةُ خلوة مع النفس أو خروج منها إلى عالم بسيط، قد يكون كناية عن شرفة وفنجان قهوة وسيجارة. هي مزاج ليس أكثر. والإقلاع عنها يعني التخلّص من أمزجة في الصباح وأخرى خلال النهار، من دون نسيان وقعها في المساء.
لا تخلو أي علبة سجائر من عبارة: "وزارة الصحة اللبنانية تحذّر من أن التدخين يؤدي إلى أمراض قاتلة ومميتة"، وهو كذلك فعلاً. في أحدث إحصائياتها، تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن التدخين يقتل ما يزيد عن ستة ملايين شخص سنوياً، متوقعة أن يصل عدد القتلى إلى ثمانية ملايين شخص سنوياً، خلال الأعوام الخمسة عشر المقبلة. أيضاً، يبلغ عدد الذين يلقون حتفهم سنوياً من جرّاء استنشاق الدخان في المحيط الذي يتواجدون فيه، نحو 600 ألف شخص سنوياً.
عادةً، لا نخاف كثيراً حين نقرأ أن هذا العامل قد يقتلنا. ونقول إن الأمر لا يتوقف على التدخين. أما آخرون فيؤمنون بأن لكل ميتة سبباً، ولا مانع من أن يكون التدخين أحدها، ليضاف إلى عوامل عدة مسببة لأمراض قاتلة من قبيل تلوث المياه والجو وغيرهما. لطالما سخر كثيرون من عبارة الوزارة التي تبدو وكأنها "لزوم ما لا يلزم" لأنهم يعرفون الحقيقة العلمية هذه. مع ذلك، لم تقتل السجائر الجميع ولن تفعل. الأمر حظ إذاً. وفي النهاية، لن يخلّد أحد على الكوكب.
لكن أخيراً، وتحديداً في أبريل/ نيسان من عام 2014، أُضيفت عبارات جديدة إلى علب السجائر هذه، تماشياً مع القرارات الدولية. "التدخين يسبّب العجز الجنسي"، "التدخين سبب رئيسي للإصابة بسرطان الرئة"، "التدخين يُضاعف خطر الإصابة بالجلطة الدماغية"، وأكثر. ربّما يؤدّي إلى أكثر من ذلك بكثير. إلا أن وزارة الصحة اكتفت بذكر عشرة أمراض لا يمكن تجاهلها، وكتبت تحذيراتها بأحرف بارزة. على الأرجح، قد يشعر الناظر إليها بخفقان في القلب هذه المرة. لن تتخيّل نفسك تحت التراب، بل حبيس الفراش، وقد تغيرت ملامحك وبات جسدك عاجزاً. تفكّر أنك قد تحرم من متعة التدخين ومتع أخرى معها، مهما كانت بسيطة.
مقلقة هذه العبارات، من دون أن تدفع الناس بالضرورة إلى الإقلاع عن التدخين. يشعر كثيرون بوجود فارق زمني بينهم وبين المرض أو الموت. لذلك، يرجئون التخلي عن المتعة. لميس، التي تدخّن علبتين من السجائر يومياً، حاولت مراراً الإقلاع عن التدخين حفاظاً على صحتها. صحيح أنها بخير اليوم، وإن كانت تشعر بضيق في التنفس من حين إلى آخر، إلا أنها تستعدّ لاحتمالات أخرى. تحاول ثم تقول إنه متعتها الوحيدة، وقد عجزت عن إيجاد أي بديل في الحياة. لا تؤرقها المحاذير كثيراً. لكنها كلّما عانت من مشاكل في التنفس، تتخذ قرارها ثم لا تلبث أن تتراجع عنه. ضعيفة هي. ربما. مع ذلك، ليس لديها غير تعليق واحد: "السيجارة رفيقتي وإن كانت عدوّة مؤجّلة". تعرف جيداً أن التدخين مضرّ بالصحة، وتنتظر ما تخبئه لها الحياة.
لا يلتقيان كثيراً في النهار بحكم العمل. لكنه ما إن يرجع إلى البيت، حتى يعوّض ما فاتهما. هكذا يصف مروان علاقته بـ "السيجارة". بطبيعة الحال، ليس التدخين حاجة للبشر، بل مزاجاً، على حد قوله. ويبدو متمسكاً بهذا التفصيل. هو أيضاً، مثل جميع الآباء، يمنع أولاده من التدخين، وكثيراً ما يخبرهم عن مضاره الصحية. ماذا عنه؟ "علقت"، يقول لهم. وإذا ما أصابه مرض ما، سيكون "قضاءً وقدراً". يحبّ رؤية المدخنين. "هؤلاء يخرجون ما في داخلهم. ينفثونه".
على الرغم من مرور أكثر من عام على وضع هذه العبارات على علب السجائر، علماً بأن هذا المرسوم أقر ضمن مشروع منع التدخين في الأماكن العامة عام 2011 وتأخّر تطبيقه ثلاث سنوات، لم تجر الوزارة أية دراسة لبحث جدواها. ويعزو مدير البرنامج الوطني، فادي سنان، الأمر إلى "توافد اللاجئين السوريين، مما يجعل الأمر صعباً". مع ذلك، يؤمن أن لهذه العبارات أثراً إيجابياً، لافتاً إلى أننا "نستهدف الأطفال بشكل أساسي". يضيف: "نحن نسعى إلى تعديل المرسوم، بالتعاون مع وزارة المالية، للانتقال من التحذيرات الخطية إلى المصوّرة، انطلاقاً من كون تأثيرها أكبر".
اقرأ أيضاً: النرجيلة.. ظاهرة للتسلية تُعاند قرارات منع التدخين