"السلام الاقتصادي" والإفقار التنموي الممنهج في الأراضي الفلسطينية

25 يونيو 2020
باتت السلطة فاشلة اقتصادياً (عصام ريماوي/الأناضول)
+ الخط -
عندما روجت الولايات المتحدة لـ "صفقة القرن"، ركزت بصورة خاصة على شقها الاقتصادي. في "مؤتمر المنامة"، الذي عقد قبل نحو عام، زعم منظموه مناقشة خطط تفصيلية لجذب استثمارات أجنبية تتجاوز قيمتها خمسين مليار دولار لمناطق السلطة الفلسطينية وإيجاد مليون فرصة عمل ومضاعفة الناتج المحلي الإجمالي في حال موافقة الفلسطينيين على "صفقة القرن". وليس هذا الحال بجديد، إذ كان "السلام الاقتصادي" في صلب اتفاقية أوسلو في العام 1993. بالطبع، تحتل المسائل الاقتصادية موقعاً خاصاً في دراسات "حل النزاعات" و "بناء السلام" باعتبار ان التفاوت والحرمان الاقتصادي البنيوي هو أحد أسباب النزاع من جهة وأن استمراره بعد التوصل لتسوية سياسية يقوض استدامة عملية السلام. ولدى مناقشة اتفاقية أوسلو، الهمت التسوية السياسية في شمال أيرلندا والدور المحوري للعامل الاقتصادي في التوصل للتسوية وفي تثبيتها الفريق التكنوقراطي الذي أشرف على صياغة الجانب الاقتصادي في اتفاق أوسلو.

وفي حين كان "السلام الاقتصادي" تالياً لسلام سياسي في أيرلندا الشمالية، تريد الولايات المتحدة، ومن ورائها المجتمع الدولي، اختصار العامل الاقتصادي في القضية الفلسطينية بكونه "الجزرة" التي يمكن ان "تجر" الطرف الفلسطيني ليس إلى طاولة المفاوضات، فهذا امر متحقق دوماً رغم الأكذوبة الإسرائيلية والأميركية الخاصة بـ "التعنت" الفلسطيني، بل إلى توقيع اتفاقية استسلام يتنازل فيها الفلسطينيون عن كامل حقوقهم السياسية. كان الهدف وما يزال هو إغراء الفلسطينيين للخضوع لاتفاقية سياسية شديدة الإجحاف من جهة والتعمية على ذلك الإجحاف على المستوى الدولي من جهة أخرى. ينتج هذا "مفارقات" من قبيل مقاطعة الطرف الفلسطيني الضعيف والفقير والعاجز عن تطوير اقتصاده المتواضع لـ "مؤتمر المنامة" الاقتصادي وهو ما أثار حيرة صهر الرئيس الأميركي، جاريد كوشنر، الذي زعم قراءة مائة كتاب حول "النزاع الفلسطيني الاسرائيلي" لتساعده على رسم خطته والتي تمحورت، كما هو حال جميع الخطط الكولونيالية الهادفة لطمس الحقوق السياسية والآمال الوطنية للسكان الأصليين، حول جزرة "السلام الاقتصادي".

ولكن، هل يمكن لاستسلام سياسي أن يحقق منافع اقتصادية فعلية للفلسطينيين وان يؤدي إلى تنمية اقتصادية وطنية مستقلة كما كانت الوعود الأميركية والدولية؟ تم توقيع بروتوكول باريس الاقتصادي بعد توقيع اتفاق أوسلو ليحدد المبادئ التي تحكم العلاقات الاقتصادية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. كان هنالك نتائج إيجابية على الصعيد الاقتصادي حيث ارتفع الناتج المحلي الإجمالي في مناطق السلطة الفلسطينية خلال السنوات الخمس التي تلت توقيع الاتفاق وانخفضت معدلات البطالة. كما حققت النخبة الاقتصادية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة منافع اقتصادية بسبب الاستقرار الأمني والسياسي الذي وفره ذلك الاتفاق لفترة من الزمن وهو ما شكل مناخا ملائماً لعمل القطاع الخاص ولتحقيق النمو. واخيراً، كان للمساعدات الاقتصادية والمعونات الدولية الهائلة التي تدفقت لأراضي السلطة الفلسطينية دور كبير في تحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي الخاصين بتلك الفترة. وكان ذلك أحد أسباب تمسك النخبة الاقتصادية والسياسية باتفاق أوسلو وما نجم عنه رغم نتائجه السياسية الكارثية.

"السلام الاقتصادي" لم يقد إلى سلام سياسي بل إلى انفجار تمثل بالانتفاضة الثانية للعام 2000 والتي كانت رداً شعبياً فلسطينياً على وصول محادثات السلام بين القيادة الفلسطينية وإسرائيل لطريق مسدود بفعل عدم رغبة الأخيرة في تقديم أي تنازل يقود لأي شكل من أشكال السيادة الفلسطينية. ولكن الإحباط كان ايضاً على الصعيد الاقتصادي إذ لم تتمكن أرقام النمو المذكورة في أعقاب اتفاق أوسلو من حجب عدد من العوائق البنيوية أمام تنمية الاقتصاد الفلسطيني.

أولاً، ظهرت المفارقة التي تطبع السياسات الاقتصادية النيوليبرالية حول العالم في مناطق السلطة الفلسطينية. إذ لم يعد النمو الاقتصادي بمنافع ذات أهمية على الفئات الشعبية بل ذهبت ثماره لأصحاب رأس المال والنخب المرتبطة بالسلطة. وبالمجمل، رغم تزايد أعداد العاملين خلال فترات النمو، كانت أجورهم الحقيقية في تدنٍ مستمر. الأهم من كل ذلك، لم يكن هذا الجانب "الإيجابي" للتداعيات الاقتصادية لاتفاق أوسلو مستداماً بل كان محكوماً بالبنية السياسية-الاقتصادية التي اقرها الاحتلال والتي تُخضع الاقتصاد الفلسطيني لحاجات نمو الاقتصاد الإسرائيلي من جهة وللأهداف السياسية لدولة الاحتلال من جهة أخرى وفي صلبها منع إقامة دولة فلسطينية. تطلب ذلك سياسة متعمدة تطلق عليها سارة روي (Sara Roy) أستاذة الاقتصاد السياسي في جامعة هارفرد "سياسات الإفقار التنموي" (de-development) والهدف منها هو تحويل الأراضي الفلسطينية إلى مناطق غير قابلة للحياة من خلال تدمير المقومات الاقتصادية ومنع تطور قوى الإنتاج وتجريد مناطق السلطة من الموارد الاقتصادية الحالية والممكنة أو المستقبلية في حال إتاحة المجال للنمو الاقتصادي دون تدخل الاحتلال.

اتفاق أوسلو وشرعنة الإفقار التنموي
كرس اتفاق أوسلو خضوع الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي وخضوع السلطة الفلسطينية للدولة الصهيونية من خلال تحكم الاحتلال بجمع الضرائب وفرض الشيكل الإسرائيلي على مناطق السلطة الفلسطينية تجنباً لإضفاء أي طابع سيادي عليها. رغم أن قطاع المال والبنوك يدار بصورة رسمية من قبل السلطة الفلسطينية، تحتفظ الأخيرة بسلطة محدودة على السياسات المالية والبنكية لعدم وجود عملة وطنية فلسطينية وهو ما يعزز ارتباط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي ويخضع البنوك الفلسطينية لنظيراتها الإسرائيلية ولشروط تفرضها إسرائيل تتسبب بخسائر كبيرة لقطاع البنوك. كما شرعن اتفاق أوسلو هيمنة إسرائيل على المناطق الخصبة زراعيا باعتبارها مناطق عازلة في غزة أو بوضعها تحت المنطقة "سي" والتي تخضع للسيطرة الإسرائيلية التامة وتشكل 61 في المائة من مساحة الضفة الغربية. تبلغ خسارة السلطة الفلسطينية بسبب عدم سيطرتها على المنطقة "سي" 480 مليون دولار سنويا وهو ما يساهم في رفع مستويات البطالة بين صفوف الفلسطينيين.

وفضلاً عن كل ذلك، رغم ارتفاع معدل النمو الاقتصادي بعد الاتفاق، انخفض التبادل التجاري بين مناطق السلطة وإسرائيل ومال الميزان التجاري لصالح الأخيرة بصورة كبيرة وذلك بسبب الزيادة المستمرة في الحواجز العسكرية وتوسع المستوطنات في الضفة الغربية وتحكم إسرائيل بجميع معابر الصادرات والواردات. وخلال فترة "السلام الاقتصادي" المذكورة (1994-1999) كان هنالك نحو 500 يوم من الإغلاق المفاجئ للمعابر بذريعة إجراءات وقائية ضد "العنف الفلسطيني". كما تتحكم إسرائيل بحركة السكان داخل الضفة الغربية وعلى المعابر. صدرت دراسات عديدة عن البنك الدولي ومؤسسات دولية أخرى تسلط الضوء على الخسائر الناتجة عن تلك الحواجز على الاقتصاد الفلسطيني وتؤكد على سبيل المثال ان وضع حاجر على مدخل بلدة فلسطينية يزيد من معدلات البطالة ويقلص من مستويات الأجور فيها (ولكن تلك الأوراق تتعامل مع المسألة بصورة تكنوقراطية بحتة وتجردها من أي بعد سياسي وتصور الحواجز كنتيجة لـ "الصراع" وليس نتيجة سياسات متعمدة لدولة الأبارتهايد الإسرائيلي). لم يمر وقت طويل إذن على توقيع اتفاق أوسلو حتى اتضح أنه لن يصنع "معجزة اقتصادية" جديدة كما عقدت عليه الآمال. لم تتحول الضفة الغربية وقطاع غزة إلى تايوان او سينغافورا الشرق الأوسط بل تعزز إخضاعها إلى حاجات التنمية الاقتصادية لدولة الاحتلال وارتفعت درجة ووتيرة تفتيتها إلى أوصال معزولة عن بعضها الآخر بالحواجز والمستوطنات.

منحت اتفاقية أوسلو، السلطة الفلسطينية سيادة منقوصة لا تخولها التخطيط لتنمية اقتصادية مستقلة وإنما لتمارس دورها الرئيسي الذي كان سبب موافقة إسرائيل على نشوئها وهو الدور الأمني. أثقل هذا الدور كاهل السلطة الفلسطينية إذ خصصت أكثر من ثلث موازنتها السنوية للأمن كما تجاوز عدد العاملين في القطاع الأمني عدد العاملين في قطاعات الصحة والتعليم والخدمة الاجتماعية مجتمعين. وفضلاً عن ذلك، ذهب قسم كبير من المعونات الاقتصادية الدولية لتدريب قوات الأمن الفلسطينية وليس للتنمية الاقتصادية أو حتى لتطوير البنية التحتية التي تعتبر شرطاً ضروريا في أي خطة للتنمية الاقتصادية ولتطوير الإنتاج المحلي الفلسطيني.

في ظل هذا الواقع، كان من المستحيل تماماً أن يتطور قطاع إنتاجي فلسطيني محلي. إذ تحكمت دولة الاحتلال بحرية حركة العاملين وبواردات وصادرات القطاعات الإنتاجية الفلسطينية وبالتكنولوجيا الإنتاجية التي تستخدمها. كما أدت الحواجز الإسرائيلية لارتفاع تكاليف النقل والتامين بصورة كبيرة جدا وهو ما رفع أسعار السلع وجعلها غير تنافسية.

لم تكن إسرائيل الطرف المستفيد سياسيا وأمنيا فقط بل حتى اقتصادياً. من خلال التعمية على حقيقة إسرائيل باعتبارها قوة احتلال استيطاني وتحويل القضية الفلسطينية المرتبطة بالحرية وحق تقرير المصير إلى "نزاع" بين طرفين متكافئين على طاولة مفاوضات، حسًنت إسرائيل من صورتها ومكانتها الدولية. سمح ذلك بتوسيع العلاقات الاقتصادية معها وفتح أسواق العديد من دول العالم لمنتجاتها وهو ما ظهر بزيادة الناتج المحلي الإجمالي لدولة الاحتلال بصورة كبيرة بعد توقيع اتفاقية أوسلو. كما تستفيد إسرائيل من اختناق الاقتصاد الفلسطيني وانعدام فرص تطويره من خلال توفر العمالة الرخيصة لها بما يزيد من أرباح منتجاتها وتنافسيتها لدى تصديرها. وأخيراً استفاد الاحتلال من تدفق المعونات الدولية على الاقتصاد الفلسطيني المختنق داخليا حيث كانت ترفع القوة الشرائية للفلسطينيين باعتبارهم مستهلكين للمنتجات الإسرائيلية.

أوسلو ونزع السياسة من الاقتصاد
كرس اتفاق أوسلو، الذي أخضع السلطة الفلسطينية لشروط وعقلية داعميها ومانحيها، حلولاً نيوليبرالية لا سياسية لمشاكل الاقتصاد الفلسطيني. هكذا كانت محاولات معالجة الآثار الاقتصادية والاجتماعية الكارثية على المواطنين الفلسطينيين تنطلق من عقلية تلك الدول التي تريد نزع الجوهر السياسي للقضية الفلسطينية عبر فرض سياسات اقتصادية نيوليبرالية على السلطة الفلسطينية. وتبدو خطة رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض للتنمية الاقتصادية للعام 2007 والدعم الدولي الذي حظيت به مثالا على ذلك. ركزت الخطة على زيادة معدل النمو الاقتصادي وخفض معدلات البطالة وتوظيف السياسة المالية بصورة أكثر فاعلية في خدمة خطط النمو الاقتصادي. يقصد بالسياسة المالية في هذا السياق خطط الإنفاق الحكومي وجمع الإيرادات وبصورة خاصة الضرائب. التزمت السلطة الفلسطينية في تلك السنوات بمعايير المؤسسات الدولية وشروط المانحين النيوليبرالية الطابع والتي عادة ما تشترط تخفيض الإنفاق العام وزيادة إيرادات الدولة عبر الضرائب المباشرة على السكان وتوفير "مناخ ملائم للاستثمار". تتعامل تلك الرؤية مع الأراضي الفلسطينية المحتلة بوصفها دولة تتمتع بكامل الإمكانيات اللازمة للتطوير الاقتصادي وتشخص بالتالي ضعف التنمية الاقتصادية باعتباره خللاً في السياسات الحكومية المتبعة، أي سياسات السلطة الفلسطينية. هكذا يتوجب على الحكومات المتقاعسة عن توليد النمو تطبيق وصفات المؤسسات الدولية وهي كوصفة وإرشادات الطبيب: لا تطرح من أجل نقاشها بل من أجل تطبيقها لأنها تقوم على أسس "علمية". ولكن، فضلا عن لاعلمية هذا التحليل وثبوت خطأه مرة تلو الأخرى في مختلف الدول النامية، ما تريده هذه الوصفة هو امر سياسي بالنسبة لفلسطين وهو التعامل معها كأي بلد نامٍ يحتاج الى ضبط السياسات الاقتصادية والمالية وتجاهل قضية الاحتلال الإسرائيلي.

ضمن هذا السياق، كان من الحتمي وصول "السلام الاقتصادي" الذي بدأ مع اتفاق أوسلو واستمر مع خطة رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض إلى طريق مسدود بعد بضعة أعوام بسبب انعدام أدني مقومات الاقتصاد الوطني وهي سيادة الدولة وحرية الحركة للفاعلين في الاقتصاد المحلي. أيا كانت السياسة الاقتصادية التي تقوم عليها التنمية الاقتصادية، سواء اعتمدت على دور قيادي للدولة أو على هيمنة القطاع الخاص وحرية السوق، من دون توفر تلك الشروط فإنها محكومة بالفشل.

تؤكد اتفاقية أوسلو وما تلاها من مؤتمرات وخطط اقتصادية ومعونات دولية ضخمة حقيقة أن المسألة الاقتصادية الفلسطينية والمعوقات التنموية ليست ذات طابع تكنوقراطي يمكن حلها من خلال مناقشة السياسات الاقتصادية والمالية ومستويات المعونات الدولية والقروض، وإنما بإنهاء الاحتلال الاستيطاني الذي يمنع إمكانية نشوء تنمية وطنية فلسطينية مستقلة ويعزز من سياسات "الإفقار التنموي" التي لا تستهدف حاضر الأراضي الفلسطينية فحسب بل مستقبلها أيضاً.
المساهمون