في الريف الليبي، يبدو أنّ ثمّة عادات اجتماعية رجعت بقوّة مدفوعة بالظروف التي تعيشها البلاد، ومن أبرزها "الرغاطة" وهي عمل تكافلي يشارك فيه أهالي المنطقة أو القبيلة بمعظمهم، وتهدف إلى تقديم المساعدة جماعياً لأحد السكان. ويعلن عادة واحد من الأهالي عن البدء بذلك ويُحدَّد موعد، فتختار كل أسرة فرداً منها للمشاركة في العمل، من قبيل حصاد محصول زراعي أو صيانة بيت أو تقديم دعم في مناسبات اجتماعية من قبيل حفلات الزفاف والمآتم. والجهود التطوّعية التي تُبذَل اليوم، لا سيّما مع ظهور مؤسسات العمل الخيري التي تنشط في المناطق الريفية، قد تحدث تغييراً في تلك العادة الاجتماعية بليبيا.
فصل الربيع المقبل يُعَدّ موسم جزّ صوف الأغنام، وهو من أكثر المواسم التي تظهر فيها الرغاطة، كذلك الأمر بالنسبة إلى موسم حصاد الشعير في نهاية فصل الصيف. لكنّ أشكالاً مختلفة من الرغاطة بدأت تظهر أخيراً في نشاطات تطوعية في مناطق عدّة، من قبيل حملات تنظيف الطرقات، أمّا القائمون بها فجمعيات تطوعية خيرية.
موسى شوبانه هو مدير جمعية "فخر بلادي" التطوعية الخيرية، يشير إلى اعتزازه بموروث العمل التطوعي المحلي، مؤكداً أنّه "من الأسباب التي توحّد الليبيين سواء في المناطق أو ضمن القبائل"، لكنّه يرى أنّ "الظروف المعيشية الحالية تحتّم تطوير هذا العمل، بالتالي لا بدّ من تأسيس جمعيات تطوعية خيرية أكثر تنظيماً لتحقيق أهداف الرغاطة". ويقول شوبانه لـ"العربي الجديد" إنّ "جمعيتنا تمكنت من جمع الأموال من فاعلي الخير لبناء أكثر من خمسين مسكناً في مناطق الجبل الغربي لأسر تفتقر إلى سقف يؤويها". ويشرح أنّ "بناء مسكن في القديم كان أمراً بسيطاً ولم تكن مدّة تشييده تزيد على أسبوع واحد. أمّا اليوم، فقد صارت معدّات ومواد البناء أكثر كلفة، ما يعني أنّ عجزاً سوف يصيب عمل الرغاطة مع مرور الوقت". ويتابع أنّ "أهالي الحيّ في الماضي كانوا في خلال يوم واحد يوفّرون احتياجات شاب يرغب في الزواج، لأنّها كانت بسيطة. أمّا في أيامنا هذه، فالأمر يتطلب جهداً يمتدّ على شهور عدّة".
الرغاطة التي تبدّلت، راحت تتّخذ أشكالاً جديدة اضطر الأهالي إلى اعتمادها نظراً إلى الظروف الأمنية في البلاد. في بلدات الجنوب، على سبيل المثال، شكّل الأهالي فرق حماية وحراسة وعدد من المرافق الحيوية فيها. ففي قرى تويوي والمحروقة وزويلة وغيرها، تناوبت الأسر والقبائل على تشكيل مجموعات لحراسة المرافق الحيوية بهدف حمايتها من السرقة والتعدّيات المختلفة.
يقول طارق حبيب، وهو متطوّع لحراسة آبار منطقة الشويرف، لـ"العربي الجديد" إنّ "الرغاطة شكل تكافلي لا يمكن فصله عن ماضيه، وهي ما زالت تحافظ على جوهرها الأساسي. واليوم، توفّر الجمعيات الخيرية المال، في حين يمثّل الأهالي العنصر البشري في حملة جماعية معيّنة. والأسر تندفع عادة إلى ردّ جميل من أعانها في يوم". ويؤكد حبيب أنّ "ثمّة أشكالاً من الرغاطة في منطقتي لا تحافظ على الشكل التكافلي فحسب، بل ما زال بعضها يتمّ وسط الأهازيج والأغاني ذاتها"، ضارباً مثلاً "مواسم جزّ الصوف والحصاد وما يعمد إليه المضيفون لإكرام المشاركين في الرغاطة من قبيل ذبح شاة. فذلك دليل على الكرم البدوي". يضيف أنّه "على الرغم من تبدّل الظروف، فإنّ عدد المشاركين كبير بالمقارنة مع الماضي".
في السياق، يقول شوبانه الذي يُعِدّ نفسه من دعاة المحافظة على الهوية، إنّ "عملي لا يتوقف عند حدّ المساعدة، بل يدفعني ذلك إلى المحافظة على هذا العنصر المهم في هويتي". ويشير إلى أنّ "الرغاطة في الماضي لم تكن تأتي في الغالب تلبية لنداء شخص بعينه، بل كان الليبيون يلتقون في مبادرة جماعية بعد الإعلان عن حاجة إلى التكافل". ويشدد شوبانه على "ضرورة مأسسة تلك العادة للحفاظ عليها خوفاً من اندثارها، وهذا ما تقوم به جمعيتنا". ويؤكد شوبانه صمود الرغاطة بشكلها التقليدي في بعض المناطق، غير أنّه يؤكد اندثارها في المناطق الأخرى. ويشير إلى أنّ جمعيات العمل التطوعي والخيري، في حال لم يمتلك القائمون عليها معرفة في الموروث الليبي، فإنها سوف تمثّل عاملاً لاختفائها نهائياً وزوال التواصل بين الأهالي.