هكذا تحوّل الرواي، حين وصلنا إلى القرن العشرين، إلى مسألة إشكالية من أبرز ما يدرسه التنظير الأدبي، وقد اختلفت فيه الأطروحات وتشعّبت بين مختلف المدارس؛ من الشكلانيين الروس إلى العديد من مخابر البحث حول الأدب.
في 2009، قدّمت الأكاديمية الفرنسية سيلفي باترون عملاً بعنوان "الراوي.. مدخل إلى النظرية السردية"، وقد تحوّل بسرعة إلى مرجع أساسي -على الأقل في السياق البحثي في فرنسا- في إطار دراسة إشكالية الرواي في التنظير الأدبي، رغم أن أسماء كبيرة قد سبقت وتناولته مثل تزيفيتان تودوروف ورولان بارت وفانسون جوف وجوليان غريماس. العمل ظهر بالعربية مؤخراً في ترجمة جماعية أنجزها مجموعة من الأكاديميين التونسيين؛ هم: محمد القاضي وأحمد السماوي ومحمد الخبو ومحمد نجيب العمامي، وقد صدرت عن "معهد تونس للترجمة".
يوجد أكثر من سبب مكّن كتاب "الرواي" من هذا التموقع السريع في خارطة الكتب المرجعية في النظرية الأدبية، أوّلها أنه يمثّل انفتاحاً على معارف من خارج الحقل الأدبي، إذ تستدعي باترون بالإضافة إلى المقاربات المعروفة كتلك التي وضعها جيرار جينات ولودومير دولازيل وفرانتس ستانتزيل، مساهمات من معارف أخرى مثل اللسانيات مع جون سيرل وعلوم الاتصال مع سيجويوكي كيرودا، بحيث جعلت منهما مساهمين في النظرية السردية بطريقة ما.
لكن، يظلّ ثمة عنصر آخر على درجة عالية من الأهمية، إذ تثمّن باترون موضوع البحث نفسه، حيث تبرز أن الراوي في العملية السردية يمثل خياراً أكثر أهمية من بقية عناصر البنية السردية من شخصيات وحبكة وإطارين مكاني وزماني، فأن يجري قول الحكاية من خلال صوت مثقف أو طفل أو غير ذلك يفرض على المؤلف لغة بعينها وزوايا نظر يصرّف بها كل شيء داخل النص، كما أن الأمر لا ينتهي عند المؤلف فانتظارات القارئ أيضاً تنبني على خيار الراوي وخصائصه الاجتماعية والنفسية والثقافية، إذ من المؤكّد أن قطيعة ستحدث بين النص والقارئ حين يجد عبارات تجريدية ترد على لسان فلّاح بسيط مثلاً.