"الحمادة" الصحراوية: نظرة سينمائية مُحبّة للسكان الأصليين المهمّشين

04 مايو 2019
"الحمادة": رغبة في خلاص معطّل (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
عبر تصوير رائع، وموسيقى مُكثّفة تلمس الوجدان، وشخصيات من لحم ودم، تحمل قصصها آمالاً وطموحات وإخفاقات وانكسارات، نجح الوثائقي المتميّز "الحمادة"، للإسباني إيلوي دومينيغز سيرين (1985)، في تقديم لمحة إنسانية وبانوراما سريعة عن سكان إحدى واحات صحراء الحمادة، ما أعاد إلى الأذهان قضية سياسية وحدودية طواها النسيان، بعد وصول المفاوضات بشأنها إلى طرق مسدودة.

تدور أحداث "الحمادة" في بلدة "تفاريتي" الواحية، وليس في صحراء الحمادة برمّتها، الممتدّة من ليبيا إلى المغرب وموريتانيا والجزائر. منذ عقودٍ، يعيش في "تفاريتي"، والمناطق المجاورة لها، سكان الصحراء، كما يُطلق عليهم، بينما يُطلقون هم على أنفسهم اسم "الصحراويون". عاش هؤلاء منذ زمن بعيد في تلك البقاع. لم تتعقّد أمورهم إلا بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسباني من منطقة الصحراء، قبل 40 عامًا تقريبًا، وضمّ المغرب لتلك البقاع. منذ ذلك الحين، هناك منازعات ومشاكل عالقة، مُرتبطة بالسيادة على المنطقة، بين المغرب والجزائر وموريتانيا، والسكان أنفسهم بالتأكيد، الذين يحدوهم الأمل في استقلال تام.

رغم أن أهل الصحراء يُعتبرون مُهمّشين كليًا ـ إذْ يعيشون على الحدود مع الجزائر في مُخيمات مزرية، ومن دون جنسية، مُحاطين بالجبال والألغام، ويعانون ظروفًا معيشية قاسية ـ إلا أن "الحمادة" ليس سياسيًا أبدًا. لم يطرح سيرين أية مشكلة أو آراء سياسية، ولم يلتقِ قادة أو زعماء أو أحدًا لمناقشة القضية والاطّلاع على آخر ما وصلت إليه. هذا كلّه لم يُشغل بال إيلوي دومينيغز سيرين، ففيلمه مكترثٌ بالبشر، راصدًا معيشتهم وأحلامهم وإحباطاتهم وحياتهم اليومية. عاش سيرين بينهم فترة طويلة، ولفرط ما التصق بهم وعاش معهم، آلمه أن يبقى العالم مُتناسيًا مشاكلهم. صنع فيلمه هذا لتسليط الضوء مجدّدًا على القضية، وعلى البشر وأماكنهم. لذا، ولشدّة مصداقيته، نجح المخرج في خلق توازن بين رصد البشر ويومياتهم، وتصوير الحياة والبيئة الصحراوية. هذا كلّه من دون نظرة استشراقية أو استعلائية أو سياحية، فالعين مُحبِّة أساسًا، ما جعل فيلمه شديد التأثير، وفيه قدر كبير من العمق، والطرافة أيضًا.

في البداية، ارتبطت فكرة الفيلم بالسيارات. فالسيارات القديمة ("مرسيدس" و"لاندروفر" عتيقتان وحديثتان معًا) لفتت نظر المخرج، ليس لكونها وسيلة نزوح وتنقّل وترحال فقط، بل لحملها هوية وروح أصحابها. سيارات ليست للرفاهية، ولا للتفاخر بها، بل وسيلة عيش في صحراء شاسعة، لا سبيل إلى الدخول والخروج منها إلا بفضلها، هي التي لا بدّ أن تكون ذات نوعيّة جيدة ومتينة لتحمّل قسوة الصحراء والطرق الصخرية والعواصف الرملية. هكذا انبثقت فكرة الفيلم. لذا، تظهر، إلى مشاهد البشر والشخصيات الرئيسية، مشاهد متعددة ومتنوّعة، بعضُها ذو جماليات وطرافة، لسيارات أهل الصحراء.

إلى ذلك، لا عمل لغالبية الشباب الذين يعيشون في معسكرات أو مخيمات إيواء. هؤلاء يعانون بطالة وفراغًا ومللاً وكسلاً، في أقصى صُوَرها. لذا، فإنّ أهم ما يُشغلهم هو السيارات. يتحدّثون عنها، وعن أنواعها وماركاتها وإصلاحها. هي أحد السبُل القليلة للحصول على المال، بالسفر إلى إسبانيا لجلب سيارات قديمة أو جديدة، تهريبًا أو قانونيًا، لبيعها لأهل الصحراء.
يُركّز "الحمادة" على 3 شخصيات رئيسية: سيدأحمد وطاهر وزهرة. 3 شبان ذوي أعمار متشابهة، تجمعهم، كالغالبية، حياة البطالة والفراغ، لقلّة فرص العمل أو لانعدامها. مع ذلك، لا يكفّون عن التواصل معًا، والتحدّث عن أحلامهم. زهرة ـ الشخصية الأكثر مرحًا وتلقائية وجمالاً، ذات تركيبة نفسيّة غريبة ـ تحلم بتعلّم قيادة السيارات. تُلحّ على سيدأحمد تعليمها القيادة. هي تبحث عن عمل، رغم عدم تمتّعها بأية مؤهّلات، ومع هذا فهي تثق بنفسها إلى درجة التبجّح: تفهم في كلّ شيء، وتزعم بمعرفتها أكثر من لغة، وبقدرتها على تصليح السيارات.



رغم المواقف المرحة التي تُفجّرها، تعيش زهرة خواءً وحزنًا كبيرين، ما يدفعها إلى عيش حياتها كيفما كان. ولعلّ طريقة عيشها تناسب حياةً يعيشها هؤلاء. مع ذلك، تُثير الإعجاب بإصرارها، فبعد سفر سيدأحمد، مع نهاية الفيلم، تتعلّم قيادة "مرسيدس" قديمة. يجلس طاهر إلى جانبها، موجِّهًا ومُدرّبًا. كما سيدأحمد، يسألها طاهر مرارًا عن استماتتها لتعلّم القيادة، وفي كل مرة تردّ بإجابات مُختلفة، صدقًا أو كذبًا. في النهاية، تنجح في القيادة، وإنْ بطريقة خرقاء، غير مُصدِّقة نفسها. فحياة خشنة ووعرة وخالية من كلّ شيء تقريبًا، كما في الصحراء المحيطة، فإنّ قيادة السيارة بسيطة، ومع هذا يُعتبر انتصارًا يُحسب في حياة المرء.

يضجر سيدأحمد من حياة الواحة. يرغب في السفر إلى إسبانيا، حيث العمل والرزق والحصول على المال لإعالة والدته المريضة. يعمل ميكانيكيًا، ثم ينتقل إلى أعمال مختلفة، لتوفير ثمن التأشيرة وتكاليف السفر. في النهاية، تُرفَض تأشيرته بعد انتظار وترقّب طويلين، ما يؤدّي به إلى الإحباط والضيق، فيُقرّر السفر مهما تكن الأسباب أو الظروف أو الوسائل. يحاول طاهر وزهرة مواساته. فجأة، ومن دون معرفة الوسيلة، فالفيلم لا يوضحها، يتصل بهما هاتفيًا من إسبانيا، شاكيًا لهما عنصريةً وصعوبات حياة، سكنًا ولقمة عيش. لاحقًا، تغيب وسائل التواصل كلّها بينه وبينهما، ومع أهل الواحة جميعهم.

يريد طاهر العمل مع الأجانب، من دون معرفة نوعه. ربما يقصد "سياحة الصحراء"، إذ يظهر ـ في أحد أطرف المَشاهد ـ جالسًا مع أجنبيةٍ، محاولاً أن يشرح لها بالإسبانية أين هم تحديدًا، فيُخبرها أنهما في منطقة مفتوحة بين الجزائر وموريتانيا. إنكليزيتها بسيطة، ومع هذا تحدّثه عن بلدها بلغاريا، محاولة بدورها تفسير موقع بلدها، لكنه، بعد عجزه عن الفهم، يقول لها إنّ أوروبا له هي إسبانيا فقط. تضحك الشابّة، وتخبره أنْ هذا ليس صحيحًا، وأن هناك البرتغال وفرنسا وإيطاليا وغيرها، ثم البحر الأسود وبلغاريا. يعجز عن الفهم مجدّدًا، فيضحكان كثيرًا.
دلالات
المساهمون