وفي الوقت الذي يستعد فيه الحزبان الرئيسيان "الاشتراكي" و"الجمهوريون" لأشهر انتخابية طويلة لاختيار مرشحيهما للانتخابات الرئاسية، يتفرغ "الجبهة الوطنية" منذ بداية العام الحالي، للتفكير في أنجع الطرق لخوض الرئاسيات من خلال مارين لوبان، مرشحته الطبيعية، التي أعلنت بالموازاة بأنها ستخفف من حضورها الإعلامي وتدخل في خلوة مؤقتة. ولم يُحدث حضورها الإعلامي القوي في السنتَين الأخيرتَين للدفاع عن طروحات حزبها في الانتخابات البلدية والأوروبية عام 2014، والإقليمية والمناطقية عام 2015، تغييراً جوهرياً في صورتها لدى الرأي العام الفرنسي. كما أنّ لوبان فقدت بعضاً من البريق الذي كانت تتمتع به باعتبارها وجهاً جديداً في المشهد السياسي، يتحدث لغة واضحة وصادمة من دون البلاغة الإعلامية المكرّرة للطبقة السياسية "الكلاسيكية" بيمينها ويسارها.
هذا ما عكسه استطلاع للرأي لمؤسسة "سوفريس" الفرنسية، تم إنجازه مستهل الشهر الحالي لحساب صحيفة "لوموند" الفرنسية، ومحطة "كنال بلاس"، وإذاعة "فرانس إنفو"، بجملة من المعطيات الرقمية السلبية. وبحسب هذا الاستطلاع، فإنّ 49 في المائة من الأشخاص المستجوبين يرفضون الأفكار والحلول التي تطرحها لوبان في برامجها الانتخابية. كما أنّ 47 في المائة يعتبرونها ممثلة لحزب يميني متطرف ومعادٍ للأجانب.
وجاءت الأرقام من جهة الناخبين اليمينيين التقليديين الذين يُعتبرون في عرف مارين خزاناً انتخابياً قوياً، مخيبة للآمال. هناك 24 في المائة من هؤلاء اليمينيين، يعتبرون أن "الجبهة الوطنية" حزب ينبغي محاربته، و37 في المائة منهم فقط، يتمنون أن يكون هناك تحالف بين حزب "الجمهوريون" و"الجبهة الوطنية" يفضي إلى ائتلاف حكومي يشارك فيه وزراء من اليمين المتطرف. وهي نسبة أقل بثمانية في المائة من استطلاع آخر تم إنجازه العام الماضي. وهذه هي المرة الأولى التي تنخفض فيها شعبية مارين لوبان، وترتفع فيها درجة الرفض لطروحاتها منذ توليها رئاسة الحزب عام 2011.
اقرأ أيضاً: دروس الانتخابات الفرنسية: اليمنين المتطرف يؤسس لثلاثية حزبية
وكانت الخطوة الأولى لتدارك كل هذه المعطيات السلبية، تنظيم ورشة وطنية دامت أربعة أيام وانتهت أعمالها الأحد الماضي، خُصّصت لوضع الخطوط العريضة لعملية التقييم. وتضمنت هذه الخطوط، مسألة الخروج من منطقة اليورو، والموقف من الاتحاد الأوروبي، وموقف الحزب من قضية التقاعد والضرائب. وفُتح النقاش أيضاً، حول نقطة كانت لا تزال حتى الآن في عداد المحرّمات داخل الحزب، تتعلق بالتسمية أي "الجبهة الوطنية"، إذ ترى بعض الشخصيات الوازنة أن تغيير الاسم قد يعود بالنفع على الحزب ويزيد من شعبيته.
والواقع، أن الحزب اليميني المتطرف يعيش مفارقة سياسية صارخة، ذلك أنّه كلما اقترب من سُدَّة الحكم، كلما ابتعدت هذه السدّة وارتفعت أسوارها في وجهه. وظهر هذا جلياً في الانتخابات الأخيرة في ديسمبر/كانون الأول الماضي، والتي كرّرت سيناريو انتخابات الأقاليم. فقد حطم الحزب أرقامه القياسية وبرز كقوة سياسية أولى في نتائج الدورة الأولى، وتأهل للدور الثاني في غالبية المناطق مُحدثاً رجّة سياسية كبرى خلقت هلعاً شديداً في المشهد السياسي. غير أن شعلة الحماس انطفأت في الدور الثاني. وعلى الرغم من أنّ الحزب حصل على 6 ملايين و800 ألف صوت في الدور الثاني، فقد خرج خاوي الوفاض من المعركة ولم يتمكن من الفوز بأي من مجالس المناطق.
ويحاول "الجبهة الوطنية" أن يحلّل ويفهم عجزه عن تخطي الدورة الثانية في الاستحقاقات الانتخابية وكيفية مواجهة التحالفات التي تُنظم ضدّه من طرف الحزبين "الاشتراكي" و"الجمهوريون"، في إطار ما يسمى بـ"الجبهة الجمهورية"، والتي غالباً ما تنتهي بإقصاء "الجبهة الوطنية" وحرمانها من الفوز في الدور الثاني.
ومن بين الدروس الأساسية التي تمخّضت عن ورشة حزب لوبان الأخيرة، إعادة التفكير في البرنامج الاقتصادي للحزب وإخضاعه لجملة من التعديلات كي يكون عامل جذب للمزيد من الناخبين بدل أن يكون عامل نفور. وتضمن البرنامج الاقتصادي، شعار الخروج من منطقة اليورو والعودة إلى العملة الوطنية (الفرنك الفرنسي)، وهو شعار تاريخي أطلقه مؤسس الحزب جان ماري لوبان في التسعينيات. ويرى بعض قياديي الحزب، أن هذا الشعار يثير الخوف لدى الناخبين خصوصاً لدى شريحة المتقاعدين والعجزة الذين يميلون إلى التصويت لليمين المتطرف، لكنهم في الوقت عينه يخشون أن تنهار ودائعهم المالية في حال الخروج من منطقة اليورو.
اقرأ أيضاً: فرنسا... جبهة جمهورية في مواجهة الجبهة الوطنية