يقف تعاملنا مع مفهوم "التنسيق الأمني" على خطأين: الأول: في افتراض أن له تاريخاً خاصاً ينزعه عن سياق تاريخي يمهّد له ويتصل معه. والثاني: بأننا نزعناه من بيئة "العمالة" وقذفنا به في قلب الإجراءات الإدارية المؤسساتية.
مطالبنا للسلطة الفلسطينية بالتوقّف عن "التنسيق الأمني" تنطلق من عدم الإدراك أعلاه. لا تستطيع السلطة الفلسطينية توقيف "التنسيق الأمني" ليس لأنه دور تقوم به المؤسسة من أدوار عدّة؛ بل لأنه بنيوياً يقبع في تشكيلها. إنه مبرر وجودها وضمانة استمرارها، وشكل من أشكال تعريفها في العلاقة مع المحتل. لا توجد سلطة تتبرّع بحل نفسها، وهذا ما يعنيه وقف "التنسيق الأمني" بشكل فعلي.
وهو ليس كما يوحي اسمه: إطاراً تنسيقياً لتبادل المعلومات الأمنية بين طرفين "إسرائيل" و"السلطة"؛ بل هو جهد مادي ومعلوماتي يضمن عدم تعرّض أمن "إسرائيل" للخطر، فليست كلمة "التنسيق" هنا سوى تخفيف مُلطّف للقيام بدور مهمّة "الشركة الأمنية"، والوقائع تؤكّد ذلك؛ حيث في الوقت الذي أعلن فيه ماجد فرج، مسؤول جهاز المخابرات الفلسطينية، في حديث إلى مجلة "ديفنس نيوز" الأمنية الأميركية، بأن السلطة أحبطت 200 عملية فدائية واعتقلت 100 فدائي، منذ بداية الهبّة الأخيرة؛ فإن "إسرائيل" اجتاحت العديد من المدن الفلسطينية وخلّفت ما يقارب 200 شهيد وراءها.
لا تحصل السلطة على معلومات حول اعتداءات المستوطنين في القرى والمدن الواقعة تحت سيطرتها؛ لأن العملية الأمنية ليست تنسيقية في محتواها؛ إنها خدمات بالمعنى الاستخدامي للكلمة.
عادةً، يجري التأريخ لمفهوم "التنسيق الأمني" مع أوسلو، وهو تأريخ للكملة أكثر منه تأريخاً للمفهوم، فمع أوسلو اكتسب المفهوم شكله الإداري الحالي؛ حيث نجد هناك التأسيس النصي العام لمهمّة حفظ الأمن المرتبطة بتوسع جغرافية السلطة الفلسطينية، والمفصّل في اتفاقية طابا 1995 على الشكل التالي: "السلطة الفلسطينية مسؤولة عن منع الإرهاب والإرهابيين واتخاذ الإجراءات المناسبة بحقهم".
ونصّت الاتفاقية أيضًا على ضرورة امتناع السلطة الفلسطينية عن ملاحقة من عملوا مع "إسرائيل" على مدى السنوات، وعلى عدم الإضرار بمصالحهم الشخصية مثل الطرد من الوظيفة وخلافه. وهو الدور الذي مهّد لتوسع السلطة بعد غزة أريحا أولاً.
لكننا حين نضع المفهوم في سياقه العام، حيث يجب أن يوضَع، فإنه يمكن البداية مع "فصائل السلام" نهاية الثلاثينيات، التي كانت تجسيداً لاتفاق بين الانجليز وبعض الزعامات المحلية التابعة لها، لمحاربة فصائل الثورة والتعاون مع البريطانيين على قمعها.
وكرّر الاستعمار الإسرائيلي (وريث التجربة الإنجليزية) التجربة ذاتها بتسمية مختلفة حملت اسم "روابط القرى" على يد مستشار الشؤون العربية في الحاكمية العسكرية للضفة الغربية مناحيم ملسون، بعد التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978، وهي تجربة وجدت مسارها عبر التحالف مع بعض الوجهاء والعائلات المحلية، وهو ما اعتُبر في حينه خيانة من قبل فصائل منظّمة التحرير.
ينتمي "التنسيق الأمني" إلى هذا التاريخ، ووفقه علينا التفكير فيه، وفهم توسّع جغرافيا السلطة أو ضيقها بناء عليه؛ فمؤخّراً وافقت "إسرائيل" على فتح مراكز للشرطة ونشر عناصر أمن فلسطينية في ضواحي القدس (العيزرية – أبو ديس، والرام، وبدّو)، وحين اشتدت الانتفاضة الثانية وانتفى مبرّر وجود السلطة الفلسطينية؛ فإن جغرافيتها ضاقت إلى حدود المقاطعة، أو حرفياً إلى فوهة أول دبابة موجّهة إلى مكتب ياسر عرفات في ساحة المقاطعة.
تفهم السلطة مبرّرات وجودها بشكل جيد؛ ولذلك يثابر الرئيس محمود عباس (أبو مازن) كل فترة على تأكيد استمرار "التنسيق الأمني" بقوله: "حتى هذه اللحظة" بمعزل عن التزام "إسرائيل" بأيّ شيء. وفي ميزانيتها السنوية لعام 2016، والتي بلغت 4.25 مليارات دولار، حظي قطاع الأمن لوحدة بما نسبته 28% من الموازنة، حيث يستلم 64 ألف موظف عسكري 3.9 مليارات شيكل من إجمالي فاتورة الرواتب، وهو ما يعادل ميزانيات: الصحة والزراعة والتعليم مجتمعة.
بعد أيام قليلة من تصريحات ماجد فرج أعلاه، تقدّم رقيب أول في الشرطة الفلسطينية أمجد السكري نحو حاجز إسرائيلي لينفّذ عملية فدائية هناك، وهو الثاني من الأجهزة الأمنية بعد مازن عربية خلال الهبّة الأخيرة، وهي ظاهرة شهدناها بشكل واضح في الانتفاضة الثانية، كان أبرز أبطالها "أبو جندل" ضابط في جهاز الأمن الوطني، حيث التحق بمعركة مخيم جنين واستشهد هناك ليتحّول في أذهان الناس إلى أسطورة عسكرية.
تستخدم عادة الماكينات الإعلامية المساندة للسلطة الأمثلة هذه؛ بغرض المناكفة والتشويش على ممارسة "التنسيق الأمني" في وعي الناس، بينما هي أمثلة تعمل على إدانتها وبشكل مادي واضح. لا يخرج المقاتل لتنفيذ عمله المقاوم من صفوف السلطة بل يخرج عليها.
إنه يعيد اختراع مفهوم "الأمن" حتى يتمكّن من رؤية العدو، وهو بذلك يقطع مع مؤسّسته بشكل جذري، تلك المؤسّسة التي ثابرت على إعادة تعريف سلاح مقاومي حركة فتح، من خلال تفريغهم في الأجهزة الأمنية، وهي بذلك لا تحارب السلاح لذاته؛ بل تحارب أي مفهوم للأمن لا يشمل تعريفها هي، والذي صاغته بشكل واضح ليضمن أمن "إسرائيل" ولا يتخطّاه.
(باحث فلسطيني/ رام الله)