"البر التاني"… وقوع في فخّ التقريرية والتوعوية

06 ديسمبر 2016
أبطال فيلم "البر التاني" في مهرجان القاهرة السينمائي (فيسبوك)
+ الخط -
في بداية دخول التلفزيون إلى مصر في الستينيات، كانت الفكرة المسيطرة على الدولة هي أنه أداة للتوعية والخطابة وتقويم المجتمع. لذلك، أنتجت في تلك الفترة عشرات الأفلام والمسلسلات الدعائية عن قيم محددة، وهو أمر استمر حتى التسعينيات، في مسلسلات مثل "سر الأرض" أو "بين الناس"، إذ تناولت مشاكل مجتمعية بشكل درامي وخطابي يصل في النهاية لأن يقول للمشاهد مباشرة: هذا صواب وهذا خطأ. والفيلم المصري "البر التاني" الذي يُعرض حالياً في دور السينما، بعد أسبوع واحد من عرضه في الدورة الأخيرة من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ينتمي تماماً لهذه الفئة الدعائية لفكرة ما، من دون دراما أو أحداث أو شخصيات، فقط مقتطفات من حكايات صفحات الحوادث في الجرائد، من أجل أن يخبرك في النهاية بأن الهجرة غير الشرعية أمر خطير.
يتناول الفيلم الذي كتبته زينب عزيز قصَّة ثلاثة شباب يقررون الهجرة بشكل غير شرعي على إحدى المراكب المتوجهة إلى إيطاليا، بحثاً عن فرصة عمل وحياة أفضل. نبدأ بالتعرف على "سعيد" (بطل الفيلم ومنتجه محمد علي) الذي يعود من القاهرة، ليجلس مع أمه ووالده الضرير في مشاهد مستدرَّة للدموع تجعله في النهاية يقرر الهجرة. كذلك "عماد" الذي يترك زوجته وابنه الوليد. وأخيراً، "مجدي" الذي يعاني من مشاكل مع والدته، ولا يستطيع الزواج أو الاستقلال، فيبحث عن حياته في مكان آخر. يجتمع الثلاثة في مركب الهجرة بصحبة آخرين من أجل الوصول إلى "البر التاني".
أغرَب ما في هذا الفيلم، أن كاتبته لم تحاول أن تعبر بالشخصيَّات والحكاية أكثر من باب "الشكوى". طوال الفيلم، لا يوجد أي شيء حقيقي أو مشاعر موصولة بين الشخصيات، أو بينهم وبين المشاهد، غير الشكوى من الأوضاع السيئة. نرى ذلك في كل مشاهد ما قبل السفر، الكثير من الميلودراما والمبالغات للدرجة التي قررت أن تجعل فيها والد البطل ضريراً كزيادة في المأساوية. ولكن الأمر يكون أسوأ بعد الصعود على المركب لبداية الرحلة، وبدلاً من خلق عالم يجمع هؤلاء المسافرين، أو محاولة تكوين قصة من أي نوع، يتفرغ الفيلم مرة أخرى لحوارات لا تنتهي من الشكوى المصطنعة من سوء الأحوال وعدم وجود عمل، إذ تسأل كل شخصية الأخرى عن سبب الهجرة، فتعيد الأسباب التي سبق أصلاً أن رأيناها في مطلع الفيلم. وكأن هناك أصلاً سبباً للهجرة غير الشرعية ومواجهة المخاطر المرتبطة بذلك، إلا ضيق الحال وسوء الأحوال المعيشية، ولكن ذلك "البديهي" يتحوَّل إلى ثرثرةٍ لا تنتهي.

قرب ختام الفيلم، ومع بداية تعرض المركب للغرق، يتحول الأمر إلى تساؤل آخر عن موقف الفيلم أصلاً من القضية التي يناقشها. إذ يتحول هؤلاء الشباب المهمش والمقهور إلى مجرد نموذج عن "مخاطر الهجرة غير الشرعية"، وبغض النظر عن الجودة التقنية المنخفضة للحظات الغرق، وبأن المشاهد المصري سيشعر بالبؤس عند إدراكه محاولة المخرج علي إدريس أن يحاكي مشاهد سفينة "تايتانيك" في الفيلم الذي أنتج منذ 19 عاماً، إلا أنَّ الأهم فعلاً هو، لماذا تصنع فيلماً عن شباب قهره الوضع السياسي والاقتصادي في مصر، ثم تنهي العمل بغرقه وموته كي تقول للمشاهد، بشكل توعوي ساذج وخطابي ومباشر، إنك قد تموت في البحر لو حاولت الهجرة بشكل غير شرعي؟
ومن المفتَرض، تبعاً للتصريحات الرسميَّة لبطل الفيلم ومنتجه محمد علي، أنَّه تكلف 25 مليون جنيه، ومن الغريب أيضاً أن ممثلاً شاباً يريد أن يصبح نجماً وينتج فيلمه بميزانية ليست ضئيلة أبداً بالنسبة للسوق في مصر، أن يتحمس لفيلم عجوز يبدو وكأنه من صناعة الستينيات مثل هذا الفيلم. فلا هو صنع عملاً له أي مردود تجاري قد يعيد له أمواله أو جزءا منها (والفيلم لم يحقق أي إيرادات تذكر في أسبوع عرضه الأول). ولا خاض مغامرة فنية قد تدفعه إلى الأمام، أو على الأقل يُنظَر لها بتقدير واحترام.

المساهمون