27 أكتوبر 2024
"البريكس"... المبادئ المُدّعاة والواقع
في لقاء علمي حول مجريات الأحداث في المنطقة العربية، جرى قبل أيام في العاصمة الأرجنتينية بيونس أيريس، أتيح لي أن أستمع إلى مداخلة أحد أهم وزراء الخارجية السابقين في أميركا الجنوبية، البرازيلي سيلسو أموريم، والذي شغل ذلك المنصب بين 2003 و2010. وأهميته تتأتى من أنه رافق الصعود السريع والواثق للسياسة الخارجية البرازيلية، وتأثيراتها في الإقليم، كما في العالم، وذلك في ظل الرئيس لولا دا سيلفا، وبموازاة التغير البنيوي في الاقتصاد البرازيلي ودخول هذا البلد الكبير في نادي الأقوياء "نسبياً".
خلال هذه السنوات التي حفلت بالانتصارات، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، عدّلت البرازيل من المعايير التقييمية التي كانت ترفق باسمها، وكان يغلب عليها مفاهيم الفقر والبطالة والعنف المجتمعي. واستطاعت، أيضاً، أن توسّع من نفوذها الدبلوماسي و"القيمي" إلى خارج الإقليم الأميركي الجنوبي، ولتصبح رقماً صعباً، ليس في المفاوضات التجارية العالمية فحسب، بل وفي العلاقات الدولية في أبعادها السياسية والعسكرية أيضاً.
كما شهد العالم، خلال هذا الصعود البرازيلي السريع، انطلاق مجموعة "البريك" سنة 2006، والتي جمعت البرازيل وروسيا والصين والهند، قبل أن تنضم إليها جنوب إفريقيا سنة 2010، ليصبح اسمها "البريكس". واستندت الدول الأعضاء في هذه المجموعة، نظرياً، على محاولة كسر أحادية القطب الأميركي التي نجمت عنها مسلسلات انهيارات العالم السوفييتي، ومن في مداره. كما محاولة إنشاء تجمع اقتصادي عالمي قوي خارج الأطر التقليدية للمجموعات الدولية المهيمنة. وكما أية مبادرة للخروج من المنظومة المهيمنة السائدة، تحمس لها كثيرون ممن تبنوا مفاهيم اقتصادية وسياسية معادية للإمبريالية الأميركية في شقّها الواقعي، أو في شقّها الفولكلوري. وأصبح مفهوم "معاداة أميركا" في تعريفه الأكثر تبسيطاً سائداً في تحليلات عديدين من مادحي هذا التجمع الدولي الجديد.
الجامع المشترك النظري، إذاً، هو محاولة بناء جسم سياسي واقتصادي في مقابل لما يعتبرونه في أدبياتهم سيطرة غير عادلة على موارد الكون ومساراته. وعملياً، يجمع العداء المبطن للسياسة الأميركية، أو ما يلوذ بها، أو حتى المُتخيّل منها، هذه القوى المهمة والمنبثقة اقتصادياً وديموغرافياً. وإن تمعنّا بالنظر في تواريخ مؤسسات هذه الدول السياسية وخطاباتها لرأينا أنها كانت تتبنى دائماً نظرية معاداة، بل ومحاربة، الإمبريالية الأميركية.
فالصين التي ساكنت الشيوعية مع الانفتاح (الانفلاش؟) الاقتصادي من دون أي رادع أيديولوجي، أو محاولة تبرير سياسوي، ترى في الغمز واللمز الأميركي تجاهها، وتجاه أقصى شرق آسيا، خطراً ليس آنيا ربما، لكنه موجود. وهي تبحث عن تعزيز سيطرتها الاقتصادية والسياسية على الدول المحيطة، إضافة إلى التوسع "غير الإمبريالي" مبدئياً، باتجاه إفريقيا وأميركا الجنوبية. أما الهند، فكل مشاربها السياسية تدّعي معاداة الإمبريالية، وأحياناً يزايدون عليها بقليل من معاداة الصهيونية، في ازدواجية لافتة، حيث إن علاقاتهم الأمنية والعسكرية مع إسرائيل عميقة ومتجذّرة، لكن الدعم الأميركي لعدوتهم التاريخية باكستان يدفع بهذا الاتجاه. وتحاول جنوب إفريقيا الخروج من حقبة العنصرية المقيتة، متقربة من مفاهيم سياسية استقلالية وسيادية تحسب لها، لكن مساعداتها ديكتاتوريات إفريقية وعلاقاتها المالية الضبابية مع بعض رموز الفساد القارية تضع علامات استفهام كبيرة. أما روسيا، فحدث ولا حرج، من حيث الامتدادات والطموحات والتجاوزات الخارجية والداخلية، ودعم رموز الاستبداد السياسي والمالي، وتطوير شبكة فساد وإفساد مشهود لها بالكفاءة وبالصرامة. مع ذلك، يبقى موضوع السيادة واسترجاع الأمجاد والانتقام ممن استهان بالإمبراطورية العظيمة بوصلة سياستها الخارجية، تحت عباءة معاداة الإمبريالية أيضا وأيضا. وحيث لا همّ إن أُبيد الشعب الشيشاني بالبراميل المتفجرة، فهناك شركات تعيد إعمار غروزني، وسيستفيد منها كثيراً من يهدم ويحرق بلده الآن بالبراميل نفسها في المنطقة العربية.
تبقى البرازيل التي لا أطماع إقليمية لها، ولا سعي عسكرياً لجيشها، إنما هي تبحث عن أسواق متى أتيح لها ذلك، وتسعى إلى استعادة صحوة اقتصادها في ظل انهيارات متكررة، وارتفاع أصوات المطالبين بمحاسبة الفساد المستشري وعالي المستوى.
تحدث الوزير البرازيلي الذي ساهم في بناء وتعزيز كل ما سبق ذكره، في مداخلته الأرجنتينية عن الاتفاق النووي الإيراني، وكأنه نصرٌ شخصي. وهذا ليس نابعاً من عدم، فهو كان الوزير الذي قاد المفاوضات الثلاثية التي جمعت إيران وتركيا والبرازيل، سعياً إلى إيجاد حل توافقي تم التوصل اليه في الشهر الخامس من سنة 2010 ورفضته الولايات المتحدة حينها. لكن نشوته المبالغ بها بالإشارة إلى أن المنطقة، ونتيجة هذا الاتفاق، ستتخلّص من السلاح النووي، تحمل تجاهلاً غريباً على خبير مثله للترسانة النووية الإسرائيلية. كما أن إضافته أن الاتفاق سيسمح لإيران بالمشاركة في محاربة إرهاب تنظيم داعش، هي "المهزلة" التي لا يمكن أن تخفى على دبلوماسي عريق مثله. فإن هو يجهل دور إيران في نشر الإرهاب، وتدعيمه فكراً وممارسة، ففي ذلك مصيبة. وإن هو يتجاهل هذا الأمر لغاية في نفس يعقوب، فالمصيبة أجلّ. هل ستنضم إيران قريباً إلى مجموعة البريكس؟
خلال هذه السنوات التي حفلت بالانتصارات، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، عدّلت البرازيل من المعايير التقييمية التي كانت ترفق باسمها، وكان يغلب عليها مفاهيم الفقر والبطالة والعنف المجتمعي. واستطاعت، أيضاً، أن توسّع من نفوذها الدبلوماسي و"القيمي" إلى خارج الإقليم الأميركي الجنوبي، ولتصبح رقماً صعباً، ليس في المفاوضات التجارية العالمية فحسب، بل وفي العلاقات الدولية في أبعادها السياسية والعسكرية أيضاً.
كما شهد العالم، خلال هذا الصعود البرازيلي السريع، انطلاق مجموعة "البريك" سنة 2006، والتي جمعت البرازيل وروسيا والصين والهند، قبل أن تنضم إليها جنوب إفريقيا سنة 2010، ليصبح اسمها "البريكس". واستندت الدول الأعضاء في هذه المجموعة، نظرياً، على محاولة كسر أحادية القطب الأميركي التي نجمت عنها مسلسلات انهيارات العالم السوفييتي، ومن في مداره. كما محاولة إنشاء تجمع اقتصادي عالمي قوي خارج الأطر التقليدية للمجموعات الدولية المهيمنة. وكما أية مبادرة للخروج من المنظومة المهيمنة السائدة، تحمس لها كثيرون ممن تبنوا مفاهيم اقتصادية وسياسية معادية للإمبريالية الأميركية في شقّها الواقعي، أو في شقّها الفولكلوري. وأصبح مفهوم "معاداة أميركا" في تعريفه الأكثر تبسيطاً سائداً في تحليلات عديدين من مادحي هذا التجمع الدولي الجديد.
الجامع المشترك النظري، إذاً، هو محاولة بناء جسم سياسي واقتصادي في مقابل لما يعتبرونه في أدبياتهم سيطرة غير عادلة على موارد الكون ومساراته. وعملياً، يجمع العداء المبطن للسياسة الأميركية، أو ما يلوذ بها، أو حتى المُتخيّل منها، هذه القوى المهمة والمنبثقة اقتصادياً وديموغرافياً. وإن تمعنّا بالنظر في تواريخ مؤسسات هذه الدول السياسية وخطاباتها لرأينا أنها كانت تتبنى دائماً نظرية معاداة، بل ومحاربة، الإمبريالية الأميركية.
فالصين التي ساكنت الشيوعية مع الانفتاح (الانفلاش؟) الاقتصادي من دون أي رادع أيديولوجي، أو محاولة تبرير سياسوي، ترى في الغمز واللمز الأميركي تجاهها، وتجاه أقصى شرق آسيا، خطراً ليس آنيا ربما، لكنه موجود. وهي تبحث عن تعزيز سيطرتها الاقتصادية والسياسية على الدول المحيطة، إضافة إلى التوسع "غير الإمبريالي" مبدئياً، باتجاه إفريقيا وأميركا الجنوبية. أما الهند، فكل مشاربها السياسية تدّعي معاداة الإمبريالية، وأحياناً يزايدون عليها بقليل من معاداة الصهيونية، في ازدواجية لافتة، حيث إن علاقاتهم الأمنية والعسكرية مع إسرائيل عميقة ومتجذّرة، لكن الدعم الأميركي لعدوتهم التاريخية باكستان يدفع بهذا الاتجاه. وتحاول جنوب إفريقيا الخروج من حقبة العنصرية المقيتة، متقربة من مفاهيم سياسية استقلالية وسيادية تحسب لها، لكن مساعداتها ديكتاتوريات إفريقية وعلاقاتها المالية الضبابية مع بعض رموز الفساد القارية تضع علامات استفهام كبيرة. أما روسيا، فحدث ولا حرج، من حيث الامتدادات والطموحات والتجاوزات الخارجية والداخلية، ودعم رموز الاستبداد السياسي والمالي، وتطوير شبكة فساد وإفساد مشهود لها بالكفاءة وبالصرامة. مع ذلك، يبقى موضوع السيادة واسترجاع الأمجاد والانتقام ممن استهان بالإمبراطورية العظيمة بوصلة سياستها الخارجية، تحت عباءة معاداة الإمبريالية أيضا وأيضا. وحيث لا همّ إن أُبيد الشعب الشيشاني بالبراميل المتفجرة، فهناك شركات تعيد إعمار غروزني، وسيستفيد منها كثيراً من يهدم ويحرق بلده الآن بالبراميل نفسها في المنطقة العربية.
تبقى البرازيل التي لا أطماع إقليمية لها، ولا سعي عسكرياً لجيشها، إنما هي تبحث عن أسواق متى أتيح لها ذلك، وتسعى إلى استعادة صحوة اقتصادها في ظل انهيارات متكررة، وارتفاع أصوات المطالبين بمحاسبة الفساد المستشري وعالي المستوى.
تحدث الوزير البرازيلي الذي ساهم في بناء وتعزيز كل ما سبق ذكره، في مداخلته الأرجنتينية عن الاتفاق النووي الإيراني، وكأنه نصرٌ شخصي. وهذا ليس نابعاً من عدم، فهو كان الوزير الذي قاد المفاوضات الثلاثية التي جمعت إيران وتركيا والبرازيل، سعياً إلى إيجاد حل توافقي تم التوصل اليه في الشهر الخامس من سنة 2010 ورفضته الولايات المتحدة حينها. لكن نشوته المبالغ بها بالإشارة إلى أن المنطقة، ونتيجة هذا الاتفاق، ستتخلّص من السلاح النووي، تحمل تجاهلاً غريباً على خبير مثله للترسانة النووية الإسرائيلية. كما أن إضافته أن الاتفاق سيسمح لإيران بالمشاركة في محاربة إرهاب تنظيم داعش، هي "المهزلة" التي لا يمكن أن تخفى على دبلوماسي عريق مثله. فإن هو يجهل دور إيران في نشر الإرهاب، وتدعيمه فكراً وممارسة، ففي ذلك مصيبة. وإن هو يتجاهل هذا الأمر لغاية في نفس يعقوب، فالمصيبة أجلّ. هل ستنضم إيران قريباً إلى مجموعة البريكس؟