18 أكتوبر 2024
"البراءة" اللبنانية
تبرع الغالبية العظمى من اللبنانيين في إلقاء تبعات كل الكوارث التي مرّت، وتمرّ فيها بلادهم، على الآخرين "الداخلين على النسيج اللبناني". وعلى الرغم من أنهم مدركون مدى هشاشة هذا النسيج، أو هذه التركيبة غير المتجانسة من الطوائف والمذاهب، إلا أنهم لا يقرّون بأن هذه التركيبة هي السبب الأساس في الويلات التي عاشها لبنان، فدائماً هناك "شمّاعة" الآخر التي تُعلق عليها كل أخطائهم، ليخرجوا بريئين مما ارتكبت أيديهم، ويتحولوا إلى "ضحايا" في ما كانوا يسمونه، ولا يزال كثير منهم يفعل، "صراع الآخرين على أرض لبنان".
الكاريكاتير الذي نشرته أخيراً إحدى الصحف اللبنانية، المحسوبة على طرف سياسي وطائفي معين، والذي يلقي بمسؤولية الحرب الأهلية اللبنانية في ذكرى اندلاعها الخامسة والأربعين على الفدائيين الفلسطينيين، هو جزءٌ من هذا المخيال الشعبي اللبناني، والذي لا يقف عند الحرب الأهلية فقط، بل يمتد إلى كل أزمة مرّت بها البلاد. الكاريكاتير الأخير هو انعكاس للرواية التي يعتقد بها كثيرون في لبنان، والأمر ليس حكراً على طائفة دون أخرى. هو خلاصة إنهاء الحرب بصيغة "لا غالب ولا مغلوب"، وتحميل الآخرين مسؤولية سنوات الدمار التي مر بها لبنان. والآخرون هنا، أي في مرحلة الحرب الأهلية، متنوعون، ولكل طرف من الأطراف اللبنانية "آخر" يلقي عليه المسؤولية. فمنهم من حمّل المسؤولية للفلسطينيين، وآخرون للسوريين، أو الاثنين معاً. وهناك من وجد في إسرائيل والولايات المتحدة ضالته، وخصوصاً لارتباط الأولى باحتلال فلسطين وجنوب لبنان، وتداعيات ذلك على الداخل اللبناني، والدخول الفلسطيني والسوري إلى البلاد، والدعم غير المتناهي الذي تقدمه الثانية للأولى.
بالتأكيد كل هؤلاء الأطراف الذين يجري اتهامهم كانوا فاعلين خلال الحرب الأهلية، وكانت لهم أدوار متفرقة، لكن الرواية تغفل الدور المباشر للعنصر اللبناني في الأمر، ومدى مسؤوليته عن استدعاء التدخلات الخارجية، أو تقاطع مصالحه مع مصالح أي طرفٍ من هذه الأطراف الخارجية، في محاولةٍ لكسب صراعه مع من يفترض أنه شريكه في الوطن. أمثلة كثيرة يمكن أن تساق هنا، خلال الحرب الأهلية تحديداً، فالتدخل السوري ما كان ليحصل لو لم يجد من يرغب به من الأطراف اللبنانية المتحاربة. والعامل الفلسطيني، على الأقل في بداية الحرب، لم يكن إلا أداة في الصراع اللبناني اللبناني، الممتد إلى ما قبل عام 1975. فأزمة 1958 التي عصفت بالبلاد، والتي استدعت تدخلا مباشرا من القوات الأميركية، كانت نتاج صراع سياسي لبناني لبناني، انفجر مواجهاتٍ مسلحةً، كانت مؤسسة لاحقا للحرب الأهلية.
ومع ذلك، بقيت الرواية اللبنانية على حالها، عن "سويسرا الشرق" التي خرّبتها الأدوات الخارجية. وهي رواية لا تزال تجد لها حضوراً قوياً في العصر الراهن، وفي الأزمات التي يمر بها لبنان، سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. فكل خراب في هذا البلد، في نظر معظم أبنائه، مردّه إلى وجود "غريب" على أراضيه، فالمواطنون اللبنانيون "ملائكة تمشي على الأرض"، لا يمكن لهم أن يقترفوا أي مجزرة بحق بعضهم بعضاً، ولا أن يفسدوا في الأرض. هكذا تم إلقاء تبعات أزمة الكهرباء في البلد، وهي الأزمة الممتدة منذ نحو 30 سنة، على وجود اللاجئين السوريين. لم يتحدث أحد عن الفساد الذي نال هذا القطاع. الأمر نفسه بالنسبة إلى التعليم الرسمي، ففشله أيضاً يعود إلى وجود "غرباء" على مقاعد المدارس. والاقتصاد المتهاوي، والبطالة، يجد لها لبنانيون كثيرون، مواطنون وسياسيون، تبريراً فحواه أن هناك عمالاً أجانب ينافسون اللبناني على فرص العمل، متناسين أن ملايين اللبنانيين في الخارج ينافسون مواطني البلدان التي يعيشون فيها على أرزاقهم.
أمثلة كثيرة يمكن سياقها عن قناعة اللبناني أنه "بريء" من كل ما حدث ويحدث في بلده، وأن الآخر يتربص به، وأنه هو دائماً الضحية، رغم أنه يحمل كل مواصفات الجلاد.
بالتأكيد كل هؤلاء الأطراف الذين يجري اتهامهم كانوا فاعلين خلال الحرب الأهلية، وكانت لهم أدوار متفرقة، لكن الرواية تغفل الدور المباشر للعنصر اللبناني في الأمر، ومدى مسؤوليته عن استدعاء التدخلات الخارجية، أو تقاطع مصالحه مع مصالح أي طرفٍ من هذه الأطراف الخارجية، في محاولةٍ لكسب صراعه مع من يفترض أنه شريكه في الوطن. أمثلة كثيرة يمكن أن تساق هنا، خلال الحرب الأهلية تحديداً، فالتدخل السوري ما كان ليحصل لو لم يجد من يرغب به من الأطراف اللبنانية المتحاربة. والعامل الفلسطيني، على الأقل في بداية الحرب، لم يكن إلا أداة في الصراع اللبناني اللبناني، الممتد إلى ما قبل عام 1975. فأزمة 1958 التي عصفت بالبلاد، والتي استدعت تدخلا مباشرا من القوات الأميركية، كانت نتاج صراع سياسي لبناني لبناني، انفجر مواجهاتٍ مسلحةً، كانت مؤسسة لاحقا للحرب الأهلية.
ومع ذلك، بقيت الرواية اللبنانية على حالها، عن "سويسرا الشرق" التي خرّبتها الأدوات الخارجية. وهي رواية لا تزال تجد لها حضوراً قوياً في العصر الراهن، وفي الأزمات التي يمر بها لبنان، سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. فكل خراب في هذا البلد، في نظر معظم أبنائه، مردّه إلى وجود "غريب" على أراضيه، فالمواطنون اللبنانيون "ملائكة تمشي على الأرض"، لا يمكن لهم أن يقترفوا أي مجزرة بحق بعضهم بعضاً، ولا أن يفسدوا في الأرض. هكذا تم إلقاء تبعات أزمة الكهرباء في البلد، وهي الأزمة الممتدة منذ نحو 30 سنة، على وجود اللاجئين السوريين. لم يتحدث أحد عن الفساد الذي نال هذا القطاع. الأمر نفسه بالنسبة إلى التعليم الرسمي، ففشله أيضاً يعود إلى وجود "غرباء" على مقاعد المدارس. والاقتصاد المتهاوي، والبطالة، يجد لها لبنانيون كثيرون، مواطنون وسياسيون، تبريراً فحواه أن هناك عمالاً أجانب ينافسون اللبناني على فرص العمل، متناسين أن ملايين اللبنانيين في الخارج ينافسون مواطني البلدان التي يعيشون فيها على أرزاقهم.
أمثلة كثيرة يمكن سياقها عن قناعة اللبناني أنه "بريء" من كل ما حدث ويحدث في بلده، وأن الآخر يتربص به، وأنه هو دائماً الضحية، رغم أنه يحمل كل مواصفات الجلاد.