رغم عدم وجود صناعة سينمائية راسخة في تونس، بالمعنى المتعارف عليه للصناعة، إلا أنّ هناك حضورا سنويا لأفلام تونسية في المحافل الدولية، يُخاطب معظمها شرائح اجتماعية وفكرية متنوّعة. ميزة المشاركة في المهرجانات لا تقتصر على الفوز بجوائز، أغلبها في مجال التمثيل، فهي تقدّم أسماء جديدة، خصوصا من جيل الشباب، في مجالي الإخراج والتمثيل؛ بالإضافة إلى تنوّع المواضيع، وجرأة الطرح، ومناقشة الشائك، مقارنة بغيرها من سينمات المنطقة.
مهدي برصاوي (1984) وجه تونسي جديد، وافد حديثا إلى الساحة السينمائية الدولية. بعد فيلمين قصيرين، اختير أول روائي طويل له، "بيك نعيش" (أو "ابن" كما العنوان الفرنسي)،" في مسابقة "آفاق"، في الدورة الـ76 (29 أغسطس/ آب ـ 7 سبتمبر/ أيلول 2019) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، فنال سامي بو عجيلة جائزة أفضل ممثل عن دوره فيه. كما فاز برصاوي بجائزة أفضل فيلم روائي طويل، في تظاهرة "المواهب الشابة"، في الدورة الـ27 (26 سبتمبر/ أيلول ـ 5 أكتوبر/ تشرين الأول 2019) لـ"مهرجان هامبورغ السينمائي الدولي".
إخراجيا، استطاع مهدي برصاوي طرح نفسه كمخرج متمكّن وصاحب رؤية. عناصر فيلمه محبوكة جيدا. اختياره الممثلين رائع، كإدارته إياهم. غالبية المشاهد الداخلية مشغولة بحرفية. أحجام اللقطات المختارة لوجهي البطلين، قبل وبعد توتر الأحداث وتأزّمها، لافتة للانتباه، بنقلها المطلوب دراميا بما يخدم الأحداث. ورغم عيوبٍ غير فادحة، إلاّ أنّ السيناريو غير تقليدي، لا ثرثرة فيه ولا ميلودراما. من مميزاته، ترك مساحات للصمت والاكتفاء بالأداء عندما يتطلب الأمر ذلك.
مشكلته لا يخلو منها أي فيلم عربي، مُنجز في الأعوام القليلة الماضية، فالسيناريو يعاني ما يُطلق عليه اسم "غواية البدايات". ذلك أنّ المخرج يُحمّله كلّ ما في جعبته، مناقشا فيه كلّ شيء: مشاكل شخصية وتجارب ذاتية وقضايا كبرى تؤرقه، إلخ، بهدف الخروج بخطاب يجمع الذاتيّ بالكونيّ، محاولا إضفاء طابع إنساني على الحبكة، فيُكثّر خيوطها، لمخاطبة أكبر عدد ممكن من الناس، ما أفضى إلى نتائج عكسية. الأفدح أن الحبكة قفزت خارج المشكلة الرئيسية التي يطرحها الفيلم، والتي تكاد تقتصر على المجتمعات العربية فقط.
تطرح الحبكة ما هو مغاير وغير تقليدي بجرأة، لكن من دون عمق، نفسي وإنساني وديني واجتماعي. طرح يمكن سحبه على مساحة أكبر، كإحالة للمجتمع التونسي، انطلاقا من مناقشة ما إذا كان بوسع المرء التصالح مع الماضي أم لا، بأخطائه كلّها. سؤال يشغل بال برصاوي، مستلهما ماضي تونس، وما عاشته ولا تزال تعيشه، في سبيل نهوضها، ومزيد من تقدّمها، وصنع مستقبل حديث مُشرق.
يُفتتح الفيلم في منطقة ريفية، قريبة من "تطاوين" الجنوبية، صيف 2011. يحتفل فارس بن يوسف (سامي بو عجيلة) وزوجته مريم (نجلاء بن عبد الله) وابنهما عزيز (يوسف الخميري)، مع أهل وأصدقاء، بمريم، المغادرة إلى الخليج بعد حصولها على منصب مهم. المُلاحَظ أنّ الجميع منتمون إلى طبقة بورجوازية، وكلامهم يعكس خوفا من الإسلاميين، بعد تنحّي زين العابدين بن علي، ومدى تقبّل الشارع التونسي لهم، والمستقبل في ظلّهم، وغيرها من أمور مُلحّة، بعد "ثورة الياسمين".
ينتهي اللقاء بخير. في العودة، تتعرّض سيارة فارس لإطلاق رصاص من الجبل، ذلك أنّ جماعة إرهابية تترصّد رجال الشرطة. يصاب عزيز (10 أعوام) إصابة بالغة وخطرة في كبده، فيعود والداه إلى المدينة الصغيرة، ففيها مشفى محدود الإمكانات، في محاولة لإنقاذه من الموت. يتفاقم الوضع خطورة، فيُضطران إلى نقله إلى مشفى أكثر تجهيزًا في العاصمة. يُخبرهما الطبيب (نعمان حمزة) بضرورة زرع كبد لإنقاذ حياته، وعلى والده التبرّع بجزء من كبده. يوافق فارس، فتُجرى فحوصات طبية لازمة، تكشف نتائجها للطبيب مأزقا، يدفعه إلى مناقشة مريم فيه بهدوء، تاركًا لها حرية التصرّف: عزيز ليس ابن فارس.
قانونيا، لا يحقّ لفارس التبرّع بجزء من كبده لعزيز. طبيا، لا يستقيم الأمر. ثم يوقّع فارس على مستند يُفيد بعدم ممانعته تبرّع الأب الحقيقي لعزيز. لكن، بين عدم العثور على الأب الحقيقي، والمشاعر المتضاربة التي تعتصر فارس، يتعرّض "بيك نعيش" لإحدى نقاط ضعفه، إذْ يعرج السيناريو على موضوع تجارة الأعضاء، من دون أنْ يتناول نهائيًا مسألة إباحة نقل الأعضاء أو تحريمه، وهذا مُختَلَف عليه عربيا. فبرصاوي ينطلق من صعوبة العثور على متبرّع، لكنّه يصل إلى ليبيا، بعد سقوط نظامها، وامتلائها بمهاجرين راغبين في الفرار إلى أوروبا، وبعصابات تخطفهم وتسرق أعضاءهم وتبيعها. يتعرّف فارس على التاجر البدين شكري (صلاح مصدق)، عبر ممرض يعمل في المشفى، يتجسّس لصالحه، ويصطاد أصحاب الحالات الحرجة، وأهلهم المتعلّقين بالفراغ أملا بإنقاذ مرضاهم من الموت.
يتعقّد الأمر، ويجد فارس نفسه إزاء عملية نصب واحتيال. يتوه في الصحراء مع صبي أفريقي، قيل له، بعد سرقة الأموال، إنّه "له"، فليأخذ منه ما يشاء. ثم يُجري اتصالات صارمة مع معارف للعثور على الأب الحقيقي لعزيز، والإتيان به. يُفاجأ الأب الحقيقي بكونه أبًا لابن لا يعرفه، وهو متزوّج ورب عائلة منذ أعوام، ولا يتذكّر مريم جيدًا.
هنا، تبرز فكرة الماضي، الذي يباغت المرء من حيث لا يدري، فيتساءل عن كيفية مواجهته، وعمّا إذا كان ضروريا التصالح معه. أسئلة شائكة، يتعلّق بعضها بحرية المرأة، وخياراتها. هكذا يذهب السيناريو إلى هامشٍ آخر. لذا، وعوضا عن الخيوط الجانبية، والتوقّف عندها طويلا، يُفضَّل تركيز برصاوي أكثر على المشاعر المختلطة والمتضاربة بين الزوجين، وعلى المواجهة وتعقّد الأمور وتطوّرها، خاصة أنّه غير معروف إنْ كان حَمَل مريم سابقا على معرفتها بفارس وزواجها منه، أو بعد الزواج. هناك أمور كثيرة مسكوت عنها، كفيلة بصُنع دراما اجتماعية نفسية باهرة وعميقة.
المسكوت عنه هذا، حاول سامي بو عجيلة ونجلاء عبد الله إبرازه أدائيًا قدر المستطاع. مشاهد عديدة تكشف براعتهما في هذا، خاصة بوعجيلة مع تعبيرات وجهه، وانفعالاته الصادقة.