تمضي الأمور في اليمن نحو الاحتمالات الأصعب دائماً. ولم يمر أسبوع على صدور قرار الرئيس اليمني، عبدربه منصور هادي، لاحتواء التداعيات، التي تمنع صدور ما يسمى "إعلان عدن التاريخي"، الذي سيتم بموجبه، إذا ما تحول إلى التنفيذ، افتتاح فصل جديد من تاريخ اليمن، وربما يعاد توزيعه إلى قسمين: جنوب وشمال على الأقل. كل ذلك يعني ما يعني على مصير البلاد، وتغير خارطة التحالفات، وفتح الباب أمام كافة الاحتمالات، التي ستعززها أو تلغيها تطورات الفترة القليلة المقبلة.
ما حدث في عدن، أمس الخميس، يتلخص بأن الحشود، التي تقول مصادر محلية لـ"العربي الجديد"، إنها توافدت إلى المدينة خلال الأيام الماضية، اجتمعت في "ساحة العروض"، ليصدر ما يسمى بـ"إعلان عدن التاريخي"، تماماً كما هو العنوان الذي تم الترويج منذ أيام. حمل المشاركون راية "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية"، وهي دولة الشطر الجنوبي في اليمن، قبل إعادة توحيدها في العام 1990. وأصدر المنظمّون للفعالية، التي وُصفت بـ"المليونية"، "إعلان عدن التاريخي"، الذي بموجبه (إذا ما صار إلى التنفيذ) يصبح المحافظ المقال، عيدروس الزبيدي، قائداً بمثابة زعيم مؤسس، أو بصلاحيات "رئيس" يمثل المحافظة الجنوبية لليمن، بتفويض من الجماهير، التي دعته إلى "إعلان قيادة سياسية وطنية (برئاسته) لإدارة وتمثيل الجنوب، وتتولى هذه القيادة تمثيل وقيادة الجنوب لتحقيق أهدافه وتطلعاته".
ووفقاً لهذا التفويض (في حال التنفيذ)، يصبح جنوب اليمن، أو محافظة عدن، التي تصفها الحكومة الشرعية بـ"العاصمة المؤقتة"، خارج نطاق سيطرتها، لصالح القوى الجنوبية ذات النزعة الانفصالية، بقيادة الزبيدي، أحد القادة البارزين في "الحراك الجنوبي". ويضيف البيان "يخول القائد عيدروس قاسم الزبيدي بكامل الصلاحيات لاتخاذ ما يلزم من الاجراءات لتنفيذ بنود هذا الإعلان". وتألف "إعلان عدن"، من مقدمة موزعة على فقرات عدة، اعتبرت الحشد الجماهيري امتداداً للنضال السلمي لـ"الحراك الجنوبي" (الذي تأسس في العام 2007)، بمطالب حقوقية، والمقاومة الجنوبية (تأسست عام 2015 خلال الحرب مع الانقلابيين). وخلال الشرح الذي تضمنته المقدمة والإعلان عموماً، لم يرد اسم اليمن لا من قريب ولا من بعيد، بل ورد أن "قضية شعب الجنوب العربي (أبناء المحافظات الجنوبية) قضية عادلة وتمتلك المشروعية القانونية والسياسية، ومعترف بها عربياً ودولياً وإقليمياً"، علماً بأن تسمية "الجنوب العربي" تعود إلى كيان هش ظهر قبل رحيل الاستعمار البريطاني بسنوات، وسقط بإعلان استقلال جنوب اليمن في العام 1967.
وانتقل الإعلان إلى الحديث عن قرارات هادي بوصفها "مؤامرة"، تُذكر بإعلان الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، الحرب في العام 1994، والذي توافق مع اليوم الذي صدر فيه قرار هادي في 27 أبريل/نيسان الماضي. واعتبر الإعلان أن قرارات هادي انقلاب على الشراكة بين "الجنوب" والشرعية، قائلاً إن "عاصفة الحزم وإعادة الأمل (عمليات التحالف) قد شكّلت منعطفاً جديداً في تاريخ المنطقة، وخلقت واقعاً إيجابياً على أرض الجنوب، كنتاج للمساهمة الفاعلة للمقاومة الجنوبية بكل أطيافها بتحقيق النصر العظيم، بمساندة ودعم دول التحالف العربي في تحرير مناطق الجنوب من مليشيات الحوثي وصالح". وضم الإعلان أربعة بنود أساسية. الأول، يعتبرها "قراراً" بمسمى "إعلان عدن التاريخي"، والثاني يفوض الزبيدي بتشكيل القيادة، والثالث يتضمن أنه ما بعد الرابع من مايو/أيار، ليس كما قبله. أما الرابع فقد أكد على الشراكة مع التحالف، بقيادة السعودية والإمارات، بمواجهة "المد الإيراني"، ومكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى الالتزام بالقوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة، ومناشدة "المجتمع الدولي مساعدة شعب الجنوب وتخفيف معاناته بتحقيق تطلعاته القانونية المشروعة".
على ضوء كل ما سبق، يبدو أن الحشد في عدن، أمس الخميس، والقوى التي تقف خلفه، من "الحراك الجنوبي" والقيادات الجنوبية المختلفة، وإقليمياً دولة الإمارات التي دعمت وسائل إعلامية محسوبة عليها الفعالية بشكل كبير، ألقت بالمسؤولية على عيدروس الزبيدي، محافظ عدن المقال من الشرعية، و"رئيس الجنوب" المفوض من المتظاهرين، لتحديد الخطوات المقبلة. من زاوية أخرى، يمثل هذا التطور، حدثاً غير مسبوق، في تاريخ اليمن الذي توحد في 1990، ثم تعرضت الوحدة لشروخ مع حرب صيف 1994، التي قام فيها صالح وحلفاؤه بإخراج الشريك الجنوبي، من السلطة والبلد. وللمرة الأولى يتفق قطاع من الجنوبيين على قائد رمزي، هو الزبيدي، الذي تواليه العديد من الأجهزة الأمنية والعسكرية في محافظات عدن ولحج والضالع على الأقل. وتستهدف هذه الخطوة، إذا ما مضت إلى التنفيذ، الحكومة الشرعية الضعيفة أصلاً، وتأتي في ظل واقع مهيأ للانفصال، إذ إن جميع القوات الأمنية والعسكرية المنتشرة جنوباً تألفت حديثاً من أبناء المحافظات التقليدية، بعد أن انهارت معسكرات الجيش اليمني التقليدي، الذي كانت غالبية الولاءات فيه محسوبة على صالح. واستطاعت الحكومة الشرعية أن تجد اعترافاً دولياً بقرار نقل المصرف المركزي اليمني إلى عدن. ولعل من أبرز ما يشجع على ترسيخ الانفصال، الوضع الذي يمر به مركز الدولة اليمنية صنعاء، الواقعة تحت سيطرة المليشيات التابعة إلى جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) وأتباع صالح، في ظل حصار يفرضه التحالف على المنافذ البحرية والجوية في البلاد، بما فيها مطار صنعاء الدولي. وعملياً بات اليمن منقسماً، سياسياً وعسكرياً، وبدرجة ثانية إدارياً منذ شهور، بعد أن شكل الانقلابيون في صنعاء حكومة برئاسة عبدالعزيز بن حبتور، ما جعل البلاد أمام عاصمتين وحكومتين، في حين أن الانقسام يمكن توزيعه أيضاً في مركزين آخرين، هما مأرب وسط البلاد (شمالية سياسياً)، وحضرموت شرق البلاد (جنوبية قبل الوحدة).
دور الإمارات والتحالف
على صعيد المواقف الإقليمية، فإن التطور الذي شهدته عدن، يحمل العديد من الأبعاد، إذ إن المهرجان الجماهيري مدعوم من الإمارات بامتياز، ويمثل تيارات "الحراك الجنوبي" المدعومة من أبو ظبي. حتى أن مصادر محلية غير رسمية، تحدثت عن أن الهلال الأحمر الإماراتي، تكفّل ببعض متطلبات الفعالية، من الغذاء والماء. واحتوى "إعلان عدن"، على إشادة واضحة بالتحالف، وذكر الإمارات والسعودية بالاسم، على الرغم من أن العديد من المعطيات تشير إلى تباين بين الرياض وأبو ظبي إزاء هذا الملف.
وفي أواخر مارس/آذار2015، اجتاح الحوثيون والقوات الموالية لصالح مدينة عدن بعد أن أعلنها هادي، الذي غادر صنعاء سراً، في 21 فبراير/شباط من العام نفسه، عاصمة مؤقتة. ومع تقدم الانقلابيين، نزح مسؤولو الشرعية إلى خارج البلاد، ودارت حرب قتل فيها الآلاف، ونفذ خلالها التحالف آلاف الضربات الجوية، انتهت بإخراج الحوثيين وحلفائهم من عدن في 17 يوليو/تموز 2015 ومن المحافظات المحيطة بها (لحج، أبين، الضالع)، في الشهر الذي يليه. ومنذ ذلك الحين، تصدرت الإمارات واجهة عمل التحالف في محافظات جنوبي اليمن، سواء خلال المواجهات مع الانقلابيين، أو في المرحلة التي تلت ذلك. وخلالها أشرفت أبو ظبي على العديد من الترتيبات العسكرية والأمنية، بما فيها إنشاء قوات غالبيتها من مجندين في عدن ومحيطها، وحتى حضرموت. وتصدرت أيضاً، خلال العام 2016، عمليات ضد تنظيم "القاعدة". ومنذ الشهور الأخيرة للعام الماضي، بدأت التباينات والاختلافات تظهر بين المحسوبين على الحكومة الشرعية والقيادات المحلية المدعومة من الإمارات، والتي هي في الغالب، من قيادات "الحراك الجنوبي" المطالب بالانفصال.
وفي فبراير/شباط الماضي، اضطر هادي إلى مغادرة عدن، بعد تمرد قوات موالية للإمارات تتولى حماية مطار عدن، على قرار أصدره الرئيس. وتزايدت الخلافات، لتصل إلى القرارات التي أصدرها هادي في 27 أبريل/نيسان الماضي، وقضت بإقالة محافظ عدن، عيدروس الزبيدي، ووزير الدولة، هاني بن بريك، وإحالة الأخير إلى التحقيق. وبن بريك وزير سلفي، ويعتبر صاحب النفوذ الأول على قوات "الحزام الأمني" التي تأسست حديثاً، بدعم من الإمارات. وكانت مختلف البيانات الصادرة عن قيادات تشير بوضوح إلى أن القرارات استهدفت الإمارات، وبالتالي فإن المهرجان كان رداً من حلفائها.
وعقب تطورات عدن، قال الكاتب اليمني، ماجد المذحجي، إن الامارات لا تبدو "حساسة أو مدركة لما تفعله بدفعها الاستقطابات الجنوبية البينية حتى الحد الأقصى. وكل الحديث عن أبو ظبي ذكية دائماً في إدارة أي ملف تمسكه لا يبدو لي واضحاً في عدن، خصوصاً وهي تحضر الأرضية لجولة رعناء من الغضب والدم". وأضاف، على صفحته على "فيسبوك"، إن "أي قتال في عدن وأي تطرف معادٍ لدولة هشة هناك بالأساس، لن يحدث الآن سوى بدعم ورعاية دولة الإمارات، التي يبدو أن لديها مشروعاً لتقويض الرئيس هادي وإقامة سلطة انتداب أكثر من قتال الحوثيين وصالح".
عيدروس الزبيدي
ويتحدر الزبيدي، من محافظة الضالع، التي تعد أبرز نقطة ساخنة جنوباً بالاحتجاجات المطالبة بالانفصال، منذ اندلاع "الحراك" في العام 2007، بل إنه يُوصف بأنه من المعارضين الذين كانوا يؤيدون مقاومة السلطات بالسلاح، منذ فترة التسعينيات، وتحديداً بعد حرب صيف 1994. ويمثل الزبيدي، تياراً متشدداً في "الحراك الجنوبي"، أدى دوراً في مواجهة الانقلابيين خلال الحرب، تحت مسمى "المقاومة الجنوبية". وعُين الزبيدي محافظاً لعدن، عقب مقتل المحافظ، جعفر محمد سعد، بسيارة مفخخة مطلع ديسمبر/كانون الأول 2015. وعُين بالتزامن، أحد أبرز قادة "الحراك" ومن أكثر أصدقاء الزبيدي، اللواء شلال علي شائع، مديراً لأمن عدن. وكلاهما كانا أقرب لتمثيل "الحراك الجنوبي" الذي يميل نحو الانفصال، وعُرفا بقربهما من الإمارات. وجاء القرار الأخير لهادي ليثير حفيظة قطاع واسع من "الحراك الجنوبي" جعل من الزبيدي زعيماً بعد أن كان البعض يعتبره محافظاً فاشلاً.
كل الاحتمالات
مع كل ما سبق، يبقى من المهم الإشارة إلى أن أبرز ما اتخذ في مهرجان عدن، هو تفويض الزبيدي. وبذلك تبقى المرحلة المقبلة مفتوحة على كل الاحتمالات، وفقاً للخطوات التي سيقررها الزبيدي وفريقه ومن يدعمه، بما فيها احتمال التهدئة مع الشرعية، أو إعلان مجلس يتولى إدارة الجنوب ويصدر القرارات، على غرار ما يفعل المجلس السياسي التابع للانقلابيين في صنعاء، بالإضافة إلى احتمال أن يدخل الجنوب في صراع بين داعمي شرعية هادي مع تيار الزبيدي في "الحراك الجنوبي". لكن يبقى الاحتمال الأخير ضعيفاً إذا ما كان التحالف (الإمارات والسعودية)، ينسق بما فيه الكفاية تجاه أي خطوة مقبلة في جنوب اليمن.