تُغامِر "فيلم لاب ـ فلسطين" في برمجة الدورة الـ6 لـ"أيام فلسطين السينمائية"، المُقامة بين 2 و9 أكتوبر/تشرين الأول 2019، في مدن فلسطينية عديدة. المغامرة تعكس حيوية اشتغال، فبعض العناوين المختارة تكشف تورّطًا للمؤسّسة في مواكبة دقيقة لمسائل راهنة، تحاول السينما ـ العربية والأجنبية ـ مقاربتها، فنيًا وجماليًا ودراميًا وتوثيقيًا. اتّخاذ "تيمة" أساسية بعنوان "لا تعني لا" مُنبثقٌ من غليان اللحظة، المتمثّلة في ازدياد حالات العنف، متنوّع الأشكال والأساليب والأسباب، إزاء المرأة، في مجتمعات عربيّة وغربيّة مختلفة. 4 أفلام وثائقية تُعرض في إطار هذا البرنامج: "ألف فتاة مثلي" (أفغانستان، 2018) لساهرة ماني، و"الشعور بالمراقبة" (الولايات المتحدة الأميركية، 2018) لآسيا بونداوي، و"حقول الحرية" (إنتاج مشترك بين ليبيا والمملكة المتحدة وهولندا والولايات المتحدة الأميركية ولبنان وقطر، 2018) لنزيهة عريبي، و"عنف في الحب" (الدنمارك، 2017) لكريستينا روزندال. إلى تلك العروض، هناك 3 جلسات تتناول قضايا المرأة والقانون، وصورة المرأة في السينما والتلفزيون.
هذا جزء من مشروع. لائحة الأفلام المختارة تشي بتنبّه سينمائيّ إلى راهن عربيّ بائس. العنف غير محصور في دوائر مغلقة، كالعائلة والبيئات الضيّقة. الاحتلال الإسرائيلي يُمارس عنفًا يوميًا، رغم أنّ السينما لن تُظهره مباشرة، فللعنف الاجتماعي الفلسطيني في ظلّ الاحتلال حضورٌ ودورٌ وتأثيرات ("مفكّ" للفلسطيني بسام الجرباوي). الحرب الأسديّة في سورية، الموجّهة ضد شعبٍ وبلدٍ وعمارة وتاريخ، انعكاس لوحش عنيف متفلّت من كلّ قيد ("لسّه عم تسجل" للسوريين سعيد البطل وغيّاث أيوب). الإخفاء القسري لآلاف اللبنانيين في الحرب الأهلية (1975 ـ 1990) عنفٌ معنوي قاتل، يعيشه أهل المفقودين والمخطوفين وأقاربهم، ويُدركه معنيون بأحد أقسى الملفّات المعلّقة في تلك الحرب ("طرس، رحلة الصعود إلى المرئيّ" للّبناني غسان حلواني). التشدّد الديني، المنعكس تشدّدًا اجتماعيًا وثقافيًا، عنف يُعطّل كلّ وعي ومعرفة ("فتوى" للتونسي محمود بن محمود). التشدّد الاجتماعي، المتأتّي من موروث ثقافي وديني عربي، يمنع المرأة من علاقة سوية مع ذاتها وجسدها وانفعالاتها ("صوفيا" للمغربيّة مريم بنمبارك).
أمثلة لن تُغيَّب أفلامًا أخرى، تُعرض في مدن فلسطينية تعاني بشاعة الاحتلال وانهياراتٍ جمّة في البيئة الفلسطينية الداخلية. "لا تعني لا" منبثقة من راهنٍ موبوء بفساد وخلل واضطرابات تُصيب اجتماعًا بشريًا، بعض أبنائه وحوش مُصابون بأعطاب في النفس والروح. إدارة "أيام فلسطين السينمائية" تسعى إلى نقاشٍ حول مسائل كهذه، عبر أفلام وجلسات حوار، منضوية في الـ"تيمة" المختارة، أو في أفلام مختلفة. التزامن بين اختيار الـ"تيمة" ومقتل الفلسطينية إسراء غريب جرّاء عنف أهل وأقارب لن يكون صدفة، وإنْ يبدو الأمر هكذا. فالاختيار نابعٌ من تفاقم العنف الأسريّ في فلسطين وغيرها، ومن رغبة في التنبيه الدائم إليه عبر السينما، على الأقلّ. الغرب الأوروبي غير محصّن من مخاطره. "عنف في الحب" يكشف بشاعة وجُرمٍ متفشيّين في اجتماعٍ، يُظَنّ أنّه متخلّص من أهواله، لشدّة اشتغاله على رفاهية الفرد وسلامته.
للغربة مكانٌ. العراقي قاسم عبد يتابع مسارات فنانين عراقيين في منافيهم الأوروبية، بعد سنين من الاغتراب. "مرايا الشتات" متابعة توثيقية لحكايات ومصائر، عبر عودة إلى بداية تسعينيات القرن الـ20، لإكمال سيرة المنفى، عبر الفن والحياة والذاكرة والعلاقات. للفقدان قسوة لا ترحم. غسان حلواني يمزج الوثائقي بالمتخيّل والتحريك، راسمًا سيرة مفقودين ومخطوفين يُراد لحكاياتهم نسيان مطلق. البحث عن حقائق وملامح قدر الفلسطينية لينا العبد، الراغبة في التعرّف إلى أبٍ "يُقتل" بعد 7 أعوام على ولادتها. لكن القتل ملتبس، فالتزام إبراهيم العبد نضالاً فلسطينيًا عبر "المجلس الثوري" (تنظيم أبو نضال)، بما يحمله التنظيم من صيتٍ سيئ، يطرح تساؤلات جمّة عن معنى الكفاح والتنظيمات، في زمن ارتباكات ومصالح. هذا كلّه في "إبراهيم، إلى أجل غير مُسمّى".
اختزال مضامين الأفلام لن يحول دون متع بصرية في مشاهدة اشتغالات سينمائية كهذه. قسوة الحكايات منقولة بلغة فنية ودرامية تصنع جماليات. "ورد مسموم" للمصري أحمد فوزي صالح يتوغّل في عالم المدابغ، ملتقطًا جماليات المكان بتصوير يتوغّل في مسام الجسد والروح والفضاء والألوان والإضاءة والتفاصيل المختلفة، في يوميات القهر والمرض والرغبات المكبوتة والأحلام الموؤودة. يخرج إلى المساحات الأوسع قليلاً، لرسم ملامح أناسٍ يغرقون في مواجعهم، ويحاولون اكتشاف منفذ لن يتمكّنوا من الاستعانة به لخلاص مطلوب، لكنّه مُعلَّق.
المصري أحمد عبد الله السيّد يذهب إلى ليل القاهرة، منقِّبًا في زواياه ومتاهاته وارتباكاته، وكاشفًا أهوال أفرادٍ معطوبين وقلقين وراغبين في كسر حصار يزداد قسوة. في "ليل/ خارجي"، هناك حبّ وتسلّط وبشاعات وانكسارات وخيبة، وهناك أيضًا إمكانية تنبّه إلى منافذ وخلاص. والخلاص مطلوب في "صوفيا". العلاقة خارج الزواج مصيبة في مجتمع مغربيّ يُعاني تشدّدًا في قوانين وأنماط عيش. الإنجاب خارج الزواج أخطر وأسوأ. الحكاية البسيطة تتحوّل إلى مرايا تُعرّي وتكشف، أو تحاول تعريةً وكشفًا. هذا حاصلٌ، وإنْ بشكلٍ مختلف، في "مفك" الجرباوي. صديقان منذ الطفولة، يُسجن أحدهما أعوامًا طويلة، وبعد خروجه يتكشّف حجم القهر والتوهان وفوضى الداخل الذاتي والروحي والنفسي، داخل البيئة الفلسطينية.
للاحتلال الإسرائيلي تأثيره السلبي. لكن بؤس البيئة الفلسطينية غير عابر.