"أومريكا": ذلك العالم البعيد

16 اغسطس 2015
(مشهد من الفيلم)
+ الخط -
تعرض الصالات الفرنسية، حالياً، الفيلم الهندي "أومريكا" (أميركا بالهندية) للمخرج براشنت نير، الذي حاز أخيراً جائزة الجمهور في "مهرجان ساتدانس". لدينا هنا كوميديا سوداء تسلّط الضّوء على الحلم الأميركي في مخيال "البؤس" الهندي واستيهاماته.

يهاجر الأخ الأكبر أوداي إلى "أومريكا"؛ ليصبح فخر العائلة التي تصير بدورها فخر القرية التي تجتمع كل أسبوع لقراءة الرسائل التي تصلها من هناك، مرفقةً بصور وأدوات يومية مبتذلة تغدو نافذة أبناء القرية على ذلك العالم السحري والمشتهى.

في أحد المشاهد، نرى الأم تفسّر للجارة صورة مرحاض "أومريكي"، وتشرح لها بحماس كيف يعمل كما لو كان الأمر يتعلّق بأعجوبة تكنولوجية. وحين تسألها الجارة إن كان أوداي يجلس عليه، تجيب بامتعاض كما لو كان السؤال ينتقص من ذكورة ابنها: "لا، هذا فقط للبيض!".

يتخيّل سكّان القرية أميركا بوصفها عالماً يوتوبياً لا شقاء فيه ولا عداوة، حيث تفيض الخيرات، والجميع فرِح وودود. يكبر الأخ الأصغر، رمكانت، في ظلّ أخيه المقدام، ولا يحلم منذ نعومة أظافره إلا بالسير على خطاه إلى العالم الجديد.

إلا أن الرسائل الأومريكية تنقطع بعد أن يلقى رب العائلة حتفه جرّاء حادث في المصنع، وسرعان ما يكتشف رمكانت أن الأب هو الذي كان يكتب الرسائل كي لا يتحطّم فؤاد الأم، إذ إن أخبار أخيه انقطعت منذ أن غادر القرية.

يذهب رمكانت بدوره إلى المدينة للبحث عن أخيه ومعرفة مصيره، ويقرّر أن يطأ أرض أومريكا مهما كلّف الأمر، للتكفير عن كذبة الأب وإنقاذ شرف العائلة.

تحيل مشاهدة الفيلم إلى التفكير في رواية صاموئيل شمعون "عراقي في باريس"، التي يروي فيها كيف أفنى عمره وهو يلحق بسراب حلمه الهوليوودي، وخبِر من أجله الزنازين الأمنية والحروب الأهلية والتشرّد ومغامرات مضحكة مبكية لا تُحصى، في العراق وسورية ولبنان والأردن وتونس وباريس.

إذا كانت الأحلام الهجروية لدى شعوب العالم الثالث، ككل الأحلام، عصية على التحقّق وفق صورتها المشتهاة، فبوسعها أن تغدو مغامرة ومعنى حياة بكاملها.

يبقى أن الهنود، وإن كانوا يشبهون العرب إلى حد بعيد في الملامح والمأكل والملبس والعادات والظروف البائسة، فموقع أميركا في وعيهم يختلف بوضوح عن موقعها في الوعي العربي.

في مقطع من فيلم نير، حينما ينقل المذيع نبأ انفجار مكّوك الفضاء الأميركي "تشالنجر"، يبدو الأشقياء الهنود المتجمهرون أمام الشاشة مصدومين وحزينين كما لو كانوا من أهل المصاب، وهذا مشهد لا يمكن أن يجد ما يعادله في رواية شمعون.

نحن نحلم بالذهاب إلى أميركا والتمتّع بخيراتها الفعلية والمتخيّلة، لكننا نكرهها ونتمنى لها الشر. نجد صورة أميركا في الوعي العربي محمّلة برواسب الإرث الاستعماري والجرح المفتوح الذي خلفه في فلسطين، وبتداعيات حرب العراق، في حين نجد صورتها في الوعي الهندي منفصلة عن صورة المستعمر البريطاني، هي أرض الهجرة والفرص التي يسعى المهاجر المستعمَر إلى أن يجد نفسه هناك؛ في الطابور نفسه مع المهاجر المستعمِر.

وفعليّاً، يمكننا تلمّس هذا التمييز في النظرة إلى الغرب الأوروبي والغرب الأميركي لدى أبناء عدد كبير من المستعمرات الأوروبية السابقة في آسيا وأفريقيا (المعادلة تنقلب بالطبع حينما يتعلق الأمر بشعوب أميركا اللاتينية).

من المرجّح أن تلك كانت أيضاً صورة أميركا في عيون جيل جبران خليل جبران، أميركا قبل أن تكشف عن وجهها البشع في الصراع العربي الإسرائيلي وفي العراق.

دلالات
المساهمون