"أوقات طيبة" للأخوين سَفْدي... تشويق تجاريّ في مهرجان "كانّ"

12 يونيو 2017
نِكْ وكوني في "أوقات طيبة" للأخوين سَفْدي (المركز الإعلامي)
+ الخط -
كل ما سعى إليه قسطنطين "كوني" نيكاس (روبرت باتنسن) يُختزل بحالة واحدة: إنقاذ شقيقه نِك (بن سَفْدي) من السجن. فشقيقه متوحِّدٌ، والتزام كوني به جوهر حياة مشتركة بينهما. السرقة تبدو مهنة مؤقّتة، والعملية الأخيرة متأتية من رغبةٍ لديهما في الخروج من المكان والحالة، اللذين يُحاصران يومياتهما. عملية أخيرة، يُفترض بها أن تكون تقليدية: الدخول إلى مصرفٍ، بقناعين متشابهين كلّياً، والتواصل مع الموظّفة عبر قصاصات ورقية مكتوبٌ عليها ما يطلبه الشقيقان من مال.

غير أن بداية "أوقات طيّبة"، للأخوين الأميركيين جوشوا وبن سَفْدي، مختلفةٌ تماماً: نِك جالسٌ على مقعدٍ داخل غرفة، ستظهر لاحقاً كعيادة طبيب نفسيّ. لكن كوني ينقضّ على الطبيب المُعالِج، بعد مرور دقائق عديدة، تكفي لتبيان بعض الاضطرابات النفسية التي يُعانيها نِكْ. هذا فصلٌ أول. ما سيلحق به، يندرج في إطار التشويق السينمائيّ: السرقة تفشل، لأن المال ملوَّثٌ بحبر أحمر، ولأن الهروب يتحوّل إلى مطاردة، بعد تمكّن الشرطة من إلقاء القبض على نِكْ، وبداية ليلة نيويوركية قاسية وصعبة، ستتخلّلها مواقف مُضحكة وساخرة، وستنصبّ كلّها في إطار الصراع من أجل البقاء.

التماسك الدرامي المشدود بحبكة تروي حكاية المطاردة ومنعطفاتها، يجعل "أوقات طيبة" ـ المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ 70 (17 ـ 28 مايو/أيار 2017) لمهرجان "كانّ" السينمائيّ الدوليّ ـ فيلماً يُلبّي الشرط التقني ـ الفني للـ "أكشن". ما يتضمّنه النصّ من حوارات أو تصرّفات أو مسالك بشرية، يندرج في إطار التساؤلات التي يُمكن للجميع طرحها: عن الأخوّة والفقر والرغبة في خلاصٍ مؤجّل، وعن المخدرات وعالمها، وعن المفارقات الساخرة التي تضع أفراداً أمام أقدارٍ أو مصائر غير متوقّعة، أو غير مطلوبة.

هذا أساسيّ في فيلم "أكشن"، يتابع وقائع رحلة ليلية ستنتهي بتبادل الأدوار بين الشقيقين، إذْ يخرج نِكْ من السجن إلى مشفى خاصّ بمُصابه النفسي، ويذهب كوني إلى السجن. لكن الأهمّ حاضرٌ في السرد والتصوير واللقطات المقرَّبة والبعيدة. فالليل جزءٌ من الحكاية، والشوارع ديكورات مفتوحة على النفس والروح والعلاقات والمخبّأ، والمطاردة وسيلة لتبيان شيء من ذواتٍ منكسرة وخائبة. التصوير (شون باريس ويليامس) يُلاحق المطاردة بانقلاباتها وتعثّراتها وأمكنتها، كي يمزج وقائعها المادية بما يعتمل في نفوسٍ مسحوقة ومحطّمة. شخصيات تخترق المشهد، فترافق كوني في سعيه الدؤوب إلى أي منفذٍ له ولشقيقه نِكْ. شخصيات عابرة، وأخرى تحضر لوقتٍ أطول، كي تُوازن بين بؤس الشقيقين وشقاء العالم المحيط بهما.

المواقف المثيرة لضحكٍ ساخر، من دون أن تُحوِّل "أوقات طيبة" إلى "فيلم كوميدي"، قليلة: يُقرِّر كوني إخراج شقيقه من المستشفى، بعد معرفته بوجوده فيها، من دون إدراكه سبب ذلك (يتعرّض لضربٍ مبرح من موقوفين عنيفين). يُنفِّذ "المهمّة" بهدوء. ينتظر ذهاب الشرطيّ حارس الغرفة إلى الكافيتريا، قبل تحقيق مبتغاه. ينجح في ذلك. يستقلّ سيارة إسعاف تُعيد بعض المرضى إلى منازلهم. يتمكّن من إقناع عجوز سوداء بالإقامة عندها قليلاً، ريثما "تصل والدته لمرافقتهما إلى المنزل". فجأة، بعد وقتٍ قليلٍ على ذلك، يكتشف أن من أنقذه ليس شقيقه، بل مُدان بتهم متفرّقة، ولديه أيام قليلة كي يُطلق سراحه.

مفارقة تستدعي تحوّلاً في مسار الهروب والبحث عن الشقيق. لكنها مفارقة تكشف مسائل وجودية يتعرّض لها كثيرون، كأنّ يجد أحدهم نفسه أمام حالة لا علاقة له بها، فتدفعه إلى سرادب لن تكون أخفّ وطأة من معاناته. ذلك أن كوني سيدخل نفقاً آخر رفقة من ظنّه شقيقه، والنفق سيطول قليلاً، وسيجعل التشويق أمتن وأعمق، وسيوهم بنهايات ستظهر سريعاً أنها معلَّقة وملتبسة.

بعض الضحك مساحةٌ لاستراحةٍ ضرورية من لهاث التعب، الذي يصنعه كوني في رحلته الليلية. بهذا، أي بخليط التشويق والأخوَّة والبحث عن منفذٍ لخلاصٍ لن يأتي، يبقى "أوقات طيبة" عملاً متين البناء الدرامي والبنية الحكائية، لكنه ـ رغم هذا ـ يطرح سؤال آلية اختياره للمسابقة الرسمية، لمهرجانٍ سينمائيّ يُعتبر الأول والأهمّ في العالم. فطبيعته تتناقض والتوجّه الثقافي العام للصناعة السينمائية، الذي (التوجّه) التزمته إدارة المهرجان طويلاً، مع أنها منفتحة ـ في دورات عديدة سابقة ـ على نوعٍ يميل إلى التجاريّ الاستهلاكيّ، المصنوع بمهنية وحرفية واضحتين؛ خصوصاً أن مسابقة الدورة الـ 70 لـ "كانّ" تضمّ، من أصل 19 فيلماً، بعض العناوين القريبة من التجاريّ الاستهلاكيّ، كـ "أوكجا" للكوري الجنوبي بونغ جون هو، و"ووندرستراك" للأميركي تود هاينس، و"حكايات مييروفيتز (جديدة ومختارة)" للأميركي أيضا نواه بومباك، مثلاً.

سؤال كهذا لن يُخالف جمالية الصورة السينمائية، التي يتمتّع بها "أوقات طيبة"، كفيلم تشويق، يمتلك الأدوات كلّها التي تجعله فيلماً تجارياً بامتياز.



المساهمون