رحلةٌ موسيقية تبدأ من الصين، وتمرّ بإيران وتركيا وشبه الجزيرة ولبنان وسورية، وصولاً إلى الجاز؛ تصحبنا بها "أوركسترا نيويورك العربية" التي عادت، هذا الشهر، لإطلاق برنامجها من مدينة نيويورك، بعد توقّفها لفترة. تعود الفرقة، التي تأسّست عام 2007، كمؤسسة غير ربحية، في محاولة للحفاظ على الاستمرارية، والدخول بشكل أفضل إلى نسيج نيويورك المتنوّع.
على المنصّة، في إحدى قاعات "الجامعة اللبنانية الأميركية" في نيويورك، جلس كل من الموسيقار والعازف اللبناني بسام سابا، والعازفة الأميركية آبريل سينترون، وحولهما عدد من الآلات الموسيقية المختلفة. أسّس الموسيقيّان الأوركسترا معاً، لتضمّ قرابة 45 عازفاً وعازفة، أغلبهم ليسوا من أصول عربية.
تسعى الفرقة إلى أن تكون الموسيقى العربية جزءاً عضوياً من نسيج ثقافات العالم الموسيقية في نيويورك (وخارجها)؛ أي ليس موسيقى إكزوتيكية، أو موسيقى ينحصر الاهتمام فيها بأولئك المنحدرين من أصول عربية أو شرقية.
تربّى سابا في لبنان في بيت موسيقي. عزف وعمل في بلاده وخارجها مع عدّة فنانين، مثل فيروز ووديع الصافي وزياد الرحباني ومارسيل خليفة، إضافة إلى ستينغ ويو يو ما. أمّا دراسته الأكاديمية للموسيقى الكلاسيكية، فكانت في فرنسا وروسيا، قبل أن ينتقل إلى نيويورك للعيش فيها فترة التسعينيات.
في حديثٍ إلى "العربي الجديد"، يتطرّق سابا إلى تلك الفترة: "عندما وصلت نيويورك انضممتُ إلى مدرسة الموسيقى العربية التي كان قد أسّسها في الثمانينيات الموسيقار الفلسطيني سيمون شاهين والسوري جهاد راسي. حاول كلاهما العمل على أن تكون للموسيقى العربية مكانة مرموقة في الأكاديمية الأميركية".
يضيف: "انضممت إليهما عام 1991. تعلّمت كثيراً من خبرتهما، وأكملت معهما الطريق. لكن، لاحقاً، أخذت مشروعي إلى طريق خاص، بما في ذلك تدريس الموسيقى العربية على مختلف الآلات، ومن ضمنها غير "العربية". طلّابنا ليسوا فقط من العرب، أغلبهم من أصول أميركية وثقافات متعدّدة".
هكذا، نلاحظ قدرة سابا على تكريس الآلات والثقافات الأخرى في سياقٍ مشرقي. ففي حفلٍ للأوركسترا، ارتجل، إلى جانب سينترون، العديد من المقطوعات على آلة الفلوت الصيني، مقدّماً عليها ارتجالات تنتمي إلى الموسيقى العربية.
حازت الأوركسترا عند انطلاقها لأول مرة عام 2007 على اهتمام واسع. لقيت حفلاتها في مسارح معروفة، كـ "مركز لينكولن" في نيويورك إقبالاً لافتاً. لكن هذا النجاح لم يترجم باهتمام إعلامي وإمكانية لخلق مكان (مسرح) دائم في نيويورك للعروض، بل كان يتطلّب مجهوداً إدارياً في التحضير والعمل من قبل الموسيقيين المسؤولين عن الأوركسترا، بما في ذلك تنظيم دروس وحفلات خارج نيويورك وأماكن أخرى.
عن تلك المصاعب، تؤكّد آبريل سينترون، في حديث إلى "العربي الجديد" أنه "من الصعب خلق حالة فنية في أميركا عامة، ونيويورك خاصة، مهما كانت جودتها عالية، ولا سيما إن كانت من منطقة "الشرق الأوسط". كما أن ما نهدف إليه من تعليم العزف والموسيقى العربية له تحدّيات عديدة اجتماعية وسياسية بسبب العلاقة الشائكة. ناهيك عن أن المنافسة في "التفاحة الكبيرة" ليست كأي مدينة أخرى، فالتكاليف في نيويورك باهظة، وليس من السهل أن نحصل على غرف أو مسرح ثابت ندرّب فيه أوركسترا مكوّنة من 45 عازفاً".
تشير سنترون إلى أن الإعلام الأميركي واهتمامه بموسيقى من هذا القبيل محدود جداً، إن لم يكن معدوماً، فلا يَكتب عنها وكأنها غير موجودة. توضّح: "هذا الأمر يجعل الاستمرارية صعبة على الصعيد المادي. وهذا أحد الأسباب التي جعلتنا نقضي حوالى سنتين في التخطيط للخروج بانطلاقة جديدة كجمعية غير ربحية".
ولدت سينترون في نيويورك، وتعلمت العزف على الطبل منذ صغرها. في دراستها الأكاديمية، تخصّصت في علم النفس؛ حيث عملت مع ذوي الاحتياجات الخاصة والأطفال من الطبقات الكادحة، كما تطوّعت للعمل مع أطفال في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين والسوريين في لبنان، لتكون الموسيقى في مركز عملها.
تعزف الموسيقية على آلات عديدة، من بينها الآلات العربية، كالعود والدربكة. عن لقائها الأول مع الموسيقى العربية، تقول: "صدف أن رأيت إعلاناً عن حفل لسيمون شاهين وآخرين في نيويورك، يركّز على الموسيقى الفلسطينية الشعبية والعود. ذهبت إلى الحفل ولم أعرف من هؤلاء. لقد سرّني ما سمعته، وشعرت أنني وجدت ما كنت أبحث عنه؛ ألوان موسيقية جديدة تُضاف إلى ما كنت أعرفه وأؤدّيه، مثل الجاز". تضيف: "أدركت من تلك اللحظة أن هذه الموسيقى ستحتل وقتاً وجهداً كبيرين في وجداني".
تلقّت سنترون دروساً في الموسيقى العربية مع شاهين وسابا وغيرهما، إضافة إلى معرفتها بالموسيقى الغربية وعزفها مع فرق عديدة في أميركا وبلدان أخرى. في عام 2013، انتقلت للعيش في بيروت، لتعزف مع فرق عديدة، منها فرقة زياد الرحباني، قبل أن تعود مؤخّراً إلى نيويورك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جبهات متعدّدة
لا يقتصر عمل الأوركسترا على تقديم العروض الموسيقية، فقد وَضع بسام سابا وآبريل سينترون (الصورة) برنامجاً لتعليم الموسيقى وتقديم الورش كجزء من مهمّات الأوركسترا. إلى جانب محاولته خلق برنامج ثابت لحفلاته، يقدّم الفريق أيضاً دروساً في الموسيقى العربية لطلّاب الجامعات، ودورات تثقيفية للعرب الأميركيين، كما يعمل الفريق مع لاجئين في ولايتي نيويورك ونيوجيرزي.
اقرأ أيضاً: زكي ناصيف: مساحات مفتوحة في برّية حميمة