"أوتار مقطوعة".. أطفال فلسطين يتحدّون

05 نوفمبر 2014
كان هنا أطفال يلعبون(يوتيوب)
+ الخط -

يتحرّك الطفل الغزّاوي بين صخور وركام منزل متهدّم، يتضح، لاحقاً، أنّ المنزل انهار بفعل قصف مدمّر ضمن عدوان إسرائيلي، يصادف بين الركام دمية ملوّنة تركها خلفه طفل صغير، ربما قضى الطفل في البيت المدمر، لتسترجع الكاميرا في "فلاش باك" ما كان مفترضاً أنّه يجري في هذا البيت الفلسطيني العادي قبل القصف.

يظهر التلفاز الذي يعرض جزءاً من فيلم الرسوم الشهير "توم وجيري"، فيما يشي بأن أطفال البيت كانت أعمارهم صغيرة، بما يناسب الدمية التي وجدها الطفل سابقاً.

نعود إلى الواقع، الطفل متجولاً بين الأنقاض ليجد بقايا التلفاز، الذي كان يعرض رسوماً متحركة في المشهد السابق، يرفع إطار التليفزيون الفارغ من الشاشة على صخرة بين جدران البيت المدمر، وكأنه يعيده إلى وضعه قبل القصف، ثم يضع الدمية إلى جواره، يتناول قطعتين من الخشب من بين الركام ليحولهما إلى كمان وقوس، ويبدأ العزف.

مشاهد قصيرة حادة متتابعة، ما بين الواقع والفلاش باك، لكنها معبرة جدّاً عن مدى حدة وقسوة الوضع، تتخللها أصوات طائرات ومدافع تقصف بلا وجهة، ثم أشخاص يمارسون حياتهم الطبيعية، ثم منازل تحترق أو تنهار، ثم أطفال يمرحون ويلهون، ثم أصوات سيارات إسعاف تهرع إلى المكان.

فجأة يتحول الفيلم بالأطفال إلى فصل تعليم الموسيقى، ليبدأ المخرج طرح فكرته المبدعة في التعبير عن الدمار، دمار المساكن والبلدات التي تنهار تحت القصف الإسرائيلي، ودمار أقسى يطال نفسية أطفال في عمر الزهور، يفترض أنهم مستقبل هذا البلد المنكوب الصامد.
استخدام الموسيقى كخلفية ووسيط للتعبير عن الحال، كان العامل الأبرز في الفيلم الذي يحكي على لسان أطفاله الصغار مأساة متكاملة الأركان.

الأخصائية في برنامج "غزة للصحة النفسية"، ندى عمرو، أجرت دراسة على مراهقين عايشوا الحربين السابقتين، توصلت إلى أن 85 في المائة منهم لا يشعرون بالأمان الداخلي، ويعانون التوتر ليلاً بسبب القصف الذي يمنعهم من النوم، ما يؤدي إلى "خلخلة" شخصياتهم وصحتهم النفسية.

الفيلم أنجز في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، ويستعرض آثار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة؛ خصوصاً على نفسيات الأطفال إلى جانب إبراز الرغبة في الحياة لديهم من خلال تعاليهم على الجراح، وهو من إعداد فادي عبيد، مونتاج محمد شاهين، سيناريو وإخراج أحمد حسونة، ومن إنتاج فضائية فلسطين اليوم.

واختيار الأطفال كان موفقاً، الفئة العمرية المختارة، وأسلوب توظيفها، والتتابع الخاص بقصص يرويها الأطفال، وغيرها من التفاصيل التي تؤكد حرفية مخرج متمرس، عمل مطولا على موضوع فيلمه، لكن الإبداع الحقيقي يكمن في لجوئه إلى الآلات الموسيقية وتوظيفها كوسيط للسرد في الأحداث، الآلات جميعها آلات شرقية عريقة، الكمان والعود والناي والقانون، والأطفال الصغار يبدون متمرسين على استخدامها، والنغمات التي اختارها المخرج من عزفهم تبدو منتقاة بعناية، كلها تعبر عن الحزن والصمود والتحدي في آن واحد.

اللمحة الأبرز في الأطفال الأبطال هي إصرارهم جميعاً على ممارسة الحياة، ومثلما يتمسكون ببلدهم وتاريخه من خلال الحرص على تعلم العزف على آلات موسيقية تراثية، بعيداً عن آلات غربية رائجة، فإنهم يتمسكون بالحرية من خلال الإصرار على مواصلة بث الفرح واستكمال الترفيه، حتى لو كان ذلك كما يظهر في الفيلم مجازاً باستخدام بقايا المنازل المدمرة.

إنها الشخصية الفلسطينية العنيدة التي وصفها الراحل ياسر عرفات: "يا جبل ما يهزك ريح"، شخصية صمدت أكثر من ستة عقود، ستة عقود وأكثر مرت، لكن الشعب يتحدى الاحتلال والدمار والخراب والتهويد والتهجير والتخلي العربي والتجاهل الدولي.

وسط كل الأحزان يحرص الفيلم على إظهار قدرة الأطفال على الفرح، الفرح بالأساس يعبر عن القدرة على استكمال الحياة، على مواصلة النضال، على استكمال المقاومة وصولاً إلى تحرير الأرض وإقامة الدولة.

الفرح جزء من ضرورية البقاء، والبقاء هو الأمل، والأمل هو الحرية، والأطفال هم وقود تلك الحرية، وعدم فقدان الأطفال للأمل في الحرية في حد ذاته حرية.

يقول عازف الناي الصغير في حكايته: "كلما شعرت بالخوف أو شعرت أن أحداً من عائلتي خائف، أخرج الناي وأبدأ العزف، الموسيقى تحررنا من إحساسنا بالخوف وتمنحنا الثقة في النصر".

مجموعة من الرسائل المكثفة المتزاحمة في 26 دقيقة فقط، يرويها أطفال لم يتجاوزوا الثالثة عشرة، تعلم معظمهم في معهد موسيقي يحمل اسم المفكر الفلسطيني الراحل، إدوارد سعيد، الذي مرت ذكرى ميلاده التاسعة والسبعين قبل أيام.

في الثلث الأخير من الفيلم تتسارع الأحداث، يبدو المخرج متعجلاً لعرض نماذج أخرى، هو حريص على استكمال استخدام الفنون في السرد.

هذه المرة الفئة العمرية أصغر، والوسيط هو الرسم، أنامل صغيرة ترسم بمواد بسيطة رسوماً أقرب إلى "الشخبطة"، لكنها معبرة عن قسوة المأساة، الموت والقصف والعدو هي السمات الأوضح في رسومات الأطفال، لا يرسم الأطفال الغزّاويون شموعاً ولا وروداً ولا دمى، وإنما أكفاناً وجنازات وسيارات إسعاف.

ثم ينتقل الفيلم بخفة إلى ظاهرة لا يعرفها كثيرون عن شباب غزة، مراهقون يمارسون لعبة يطلق عليها "بار كور"، هي في الأساس لعبة غربية، لكنها انتقلت إلى القطاع، وباتت شائعة بين فئة من الشباب.

"بار كور" عبارة عن حركات تمزج بين فنون الرقص والقتال، يقول الشاب في الفيلم: "نحن نلعب بار كور لنثبت للمحتل أننا لسنا خائفين".

تلك الرسالة البسيطة هي المعنى العميق الذي يحرص الفيلم منذ لقطته الأولى على إبرازها وتأكيدها.

ومثلما يبدأ الفيلم، الذي اختير لافتتاح الدورة الأخيرة من مهرجان الجزيرة للأفلام الوثائقية، مع التليفزيون، فإنه ينتهي مع التليفزيون، الحرب باتت منقولة على الهواء مباشرة، يراها العالم كله، لكن أحداً لا يتحرك، رغم قسوة الأوضاع.

تبقى الأوتار مقطوعة، كدليل على أن الاحتلال متواصل، لكن يبقى الأمل أيضاً متواصلاً في إعادة شد الأوتار على الآلات ليبدأ العزف، عزف لحن الحرية.

دلالات
المساهمون