لم يكن الحضور العربي في الأندلس عابراً، فبصماته جليّة في المعمار والتقاليد والعادات والإبداع. وتكفي الإشارة إلى استمرار ذلك الأثر، إلى اللحظة، في اللغة الإسبانية وأسماء الأماكن والاحتفالات، وفي الأعمال الأدبية الإسبانية الكُبرى. ولعلّ خيرَ مثال هو "دون كيخوته".
لا تزال البحوث والدراسات تفاجئنا بمعطيات جديدة تكشف عن هذه الجذور والعلاقات بين التراث العربي وكبريات الأعمال المكتوبة بالإسبانية. في 2011، صدر للباحثة الإسبانية دولوريس أوليفر بيريث، الأستاذة في جامعة أليكانتي، كتابٌ بعنوان "أنشودة السِّيد: تكوينٌ وتأليف عربي" [السِّيدُ هو الأسد أو الذئب في لسان العرب]، ولا يزال إلى اليوم مصدر جدل، فقد انتهت المؤلفة فيه إلى أن مُسْلماً أندلسيّاً هو المؤلِّف الحقيقي لهذا العمل والذي يعتبر أحد أقدم وأعظم الأعمال الأدبية الإسبانية (تعود أقدم مخطوطة له إلى عام 1207).
تؤكّد أوليفر أنَّ أبا الوليد الوَقَشي، الشاعر والفقيه، هو الذي ألَّف "أنشودة السِّيد" في حياة الزعيم المسيحي السِّيدِ نفسِه سنةَ 1095. كما أكّدت أن هناك فرضيّتيْن تتكرّران وتؤكّدان على تأليفه الكتابَ؛ أولاهما وهي الأكثر ذيوعاً تلك التي تقول بأن الأمر يتعلّق بشاعر متجوِّل، مثلما أكّد مِنِنْدِثْ بِيدَال من قبل، وثانيتهما ترى بأن المؤلّف كان فقيهاً مثقَّفاً ومتبحِّراً في الثقافة اللاتينية.
وانتهت الباحثة إلى خلاصة مفادُها أنّ "أنشودة السِّيد" كانت في حينها قصيدة تنهض بدور دعائيّ سياسي، وأن أبا الوليد الوَقَشي ألَّفها في بلاط رُودْريغو، وأنها كانت تُستَهّلُّ بإنشادٍ عربيّ وباللغة الرومانْثية [اللغة الإسبانية القديمة، وليس لها أي علاقة بالمذهب الأدبي الرومانسي] في مدينة بلنسيَّة سنة 1095م.
هكذا إذن، يكون تاريخ تأليف "أنشودة السِّيد" غير متوافق أيضاً مع الأطروحات التي رُدِّدت كثيراً. فحتى اليوم، اعتُقِدَ أنّ تاريخ كتابة "أنشودة السِّيد" يعود إلى 1207م، بينما تثبت أوليفر أنّ العمل ما كان له أنْ يُكتَبَ في ذلك التاريخ، بل إنه كُتِبَ في حياةِ السِّيد، لأنها كانتْ مرحلة تميَّزتْ بالتسامح.
ويكمن السِّرّ في التأريخ للقصيدة بسنة 1095، وليس 1207 مثلما يُعتَقد حتى الآن، في ما عثرتْ عليه الباحثة في عبارات مُضمَّنة في أبيات القصيدة مثل "عِشْقُ المسلمين"، التي كان السِّيد يقولها. مع الأخذ بعين الاعتبار أنه بعد وفاة السِّيد، في 1099، انتهتْ هذه الحقبة من التسامح الذي كان سائداً.
يؤكّد كل ذلك الاختبار المقارن لكتاب "الأخبار الأولى العامة" الذي ألَّفه الملك ألْفونْسو العاشر، الذي يُمثّل أوَّل عمل بالرومانثية اعتمد على مصادر لاتينية وعربية وعلى "أنشودة السِّيد" وفيه نجد مفتاحاً آخر لمعرفة تاريخ التأليف.
هكذا، فعند دراسة أبيات القصيدة المطوَّلة قراءة مقارنة، وهو ما يُيسِّره كتاب "الأخبار الأولى العامة" بطابعه النثري، يُلاحَظُ كيف غُيّرت النظرة إلى السّيد، وكذلك إلى الملك ألفونسو أو القضايا الدينية. كل ذلك لأن صورة السّيد التي لم يكن لها أن تُقْبَل في المجتمع الغربي في القرون اللاحقة.
وكمثال هنالك واقعة أن السّيد كان يزهو بخداعه لليهود في النص الأصلي من "أنشودة السّيد"، فهو كان يستدين منهم دون النية في ردّ ما بذمته بحجَّة أن القرآن يمنع الرّبا، وفق ما تؤكّد أوليفر، وهو ما كان يفعله ملوك الطوائف في وقته.
في تلك الأزمنة، كان كل ملوك الطوائف كذلك يُكلّفون من يؤلِّف لهم الأعمال الأدبية كدعاية سياسية. وتستنتج الباحثة أن السِّيد فَعَلَ الشيْءَ ذاتَه اعتقاداً منه في أنّ الشَّعب يرغب في ذلك. وكان أبو الوليد الوَقَشي، مؤلِّف "أنشودة السِّيد" يُعْرَف بأنه أذكى رجال عصره وأعْلمهم. وقد عرَّفتْ به كتُب الأخبار العربيةُ والإسبانية وعرّف في كتاب "الأخبار الأولى العامة" بصفته مُسلِماً متسامحاً واجتماعيّاً ألوفاً.
وكان تسامحه بالتحديد هو الذي قاده من قريته وَقْش Huecas، التي وُلِدَ فيها والتي تقع بالقرب من بطليطلة، إلى بلنسية التي انتقل إليها هارباً. ولمّا حاصر السِّيدُ بلنسية، كان هو المُسلمَ الحكيم الذي صعد إلى البرج وتوعَّد العامَّة بالمُستقبل الأسْود الذي كان ينتظرهم.
كُلِّف الوقشي بصياغة بنود استسلام بلنسية، وهي اللحظة التي أَبْرَمَ فيها اتفاقاً مع السِّيدِ، وبموجَبها عمل الشاعر على مساعدة هذا الأخير في إقامة العدل، وفي مساعدته على إنشاء حاشيةٍ أدبية في البلاط، وألَّف له في الوقت نفسه "أنشودة السيد" كي يُحبَّه رعاياه. وفي المقابل، التزم السِّيدُ باحترام قوانين المسلمين، ومساجدهم ومعتقداتهم.
في الجزء الأوَّل من "أنشودة السيد"، ترى الباحثة الإسبانية أن الزعيم المسيحي كان يتصرَّف مثل قائد قبيلة، فكان يُحبُّ المُسلمين- الموروس، وكانوا هم أيضاً يُحبُّونه. وعثرتْ في الجزء الثاني على أنَّه كان يتصرَّف مثل مَلِكٍ من ملوك الطوائف، وذاك ما تُعبِّر عنه مشاهدُ تصف كيف كان يُعامل زوجته وبناته.