30 سبتمبر 2024
"أنا شارلي" يقارع "أنا لست شارلي"
هل أنت مع شارلي أم ضد شارلي؟ كشف الاعتداء الإرهابي على الصحيفة الساخرة "شارلي إيبدو" الذي هز الوسط الصحافي الفرنسي والعالمي أن شارلي، بما بات رمزاً لحرية التعبير، لا يحقق إجماعاً، ليس فقط بين الغرب والعالم العربي الذي يرى بعضه أن السخرية "الاستفزازية" تستحق العقاب، حتى ولو كان قاتلاً، بل بين الغرب نفسه. ما هي حرية التعبير؟ أين تقف من مقولة احترام الأديان، والتي باتت ترجمتها العملية تعني فرض رقابة مسبقة على مضمون النشر، وليس حق الرد والتعليق، وحتى المقاضاة، إذا ما لزم الأمر؟
لم ير معظم الإعلام الأنجلوساكسوني في جريمة قتل أبرز رسامي الكاريكاتور الفرنسيين اعتداء على حرية التعبير، بقدر ما رأى فيه عملاً إرهابياً، يضاف إلى الجرائم التي باتت ترتكب يومياً باسم الإسلام. تحليل التفاصيل اللوجستية للعملية والمنابع الإرهابية للمجموعة سيطر على النقاش، وتراجعت المساحات المخصصة لتعبيرات التضامن العاطفية مع ضحايا الجريمة، وما تمثله من انتهاك لأبرز قيم الثقافة الفرنسية. وكذا المساحات المخصصة للنقاش عن مشكلة الضواحي الفرنسية، وتحول هذه الضواحي إلى بيئة منتجة للعنف، ولتصدير الثقافة المضادة للمثل الفرنسية، وأبرزها حرية التعبير.
اختارت معظم وسائل الإعلام الأنجلوساكسونية ألا تنتشر رسوم الكاريكاتور الساخرة من
الإسلام، في تغطيتها الاعتداء على "شارلي إيبدو"، إذ عمد بعضها إلى تمويه الرسوم، واختار بعض آخر نشر رسوم كاريكاتورية، تسخر من أديان أخرى. اعتمد معارضو "الاستفزاز" في استخدام حرية التعبير شعار "أنا لست شارلي"، ردا على شعار "أنا شارلي" الذي اجتاح مواقع التواصل الاجتماعي ووسائط الإعلام الحديث والقديم، في حملة تعاطف مع أبشع جريمة تتعرض لها الصحافة حديثاً، مجزرة قتل 12 من طاقم عمل المجلة الساخرة. تحدث معلقون عديدون عن حدود للسخرية، بتجنب الأديان، منتقدين الطابع الشعبوي للمجلة الساخرة. مضى بعضهم في تحليل تأثير نشر الرسوم على الجاليات المسلمة في الغرب، وانعكاسها على إدماج هؤلاء، بما في ذلك إدانة مبطنة للصحافة الساخرة، باعتبارها المسؤولة عن إثارة نزعات القتل لدى هؤلاء، بحجة الشعور بالإهانة، جراء التعرض للرموز الدينية المقدسة.
قبل أعوام، أثارت الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول الجدل نفسه. وقررت غالبية وسائل الإعلام الأنجلوساكسونية أن لا تعيد نشر الرسوم في تغطيتها أخبار التظاهرات الغاضبة في عواصم الغرب. آنذاك، امتنعت هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية (بي بي سي) عن نشر الرسوم، مكتفية بشرح مضمونها في تغطيتها الحدث، وهو قرار تراجعت عنه في تغطية أحداث الاعتداء على "شارلي إيبدو"، إذ أصدرت قراراً بمراجعة سياساتها التحريرية، في ما خص نشر مواد تصور الرسول، معتبرة أن المنع السابق لم يعد مناسباً، وأن فريق التحرير سيمارس حرية اتخاذ القرار التحريري المناسب، بشأن كل حالة على حدة، واستشارة فريق السياسات التحريرية في شأن أي مسائل حساسة في التغطية الإعلامية.
ما هو مقدس وما هو غير مقدس في عرف صحافة السخرية، و"الحدود" التي يقول بعضهم بضرورة مراعاتها؟ في فرنسا العلمانية، تحتل حرية التعبير والفكر المرتبة الأولى في سلم المقدسات. في الجهة المقابلة، يرى آخرون أن المقدسات الدينية لا تقل أهمية عن حرية التعبير التي يجب أن تضع لنفسها حدوداً للتعايش مع المقدسات الدينية، بهدف صون السلام المجتمعي بين المجموعات الدينية المتنوعة. في العالم العربي، لا قيمة لحرية التعبير التي تقمع كل يوم لخدمة الأنظمة وباسم الدين والأمن القومي، وغير ذلك من "مقدسات" تفرض محرماتٍ لا تنتهي على حرية الرأي.
خرجت الحشود في الشوارع الفرنسية، احتجاجا على الإرهاب الذي ضرب البلاد، لكنها خرجت، بالدرجة الأولى، انتصاراً لحرية التعبير التي يريد لها المعتدون أن تمارس الرقابة الذاتية. لدعاة الرقابة الذاتية باسم احترام المقدسات: كيف يمكن تعريف هذه المقدسات، وتحديد من يستحق منها أن تحد حرية التعبير لصالحه، ومن لا يستحق ذلك؟ ماذا لو أصبحت ردود فعل الأفراد والمجموعات مقياساً لما يجب أن تنشره، أو لا تنشره، وسائل الإعلام؟ ما هو تعريف المقدس ومن هي الجهة المخولة وضع هذا التعريف؟ هل ما يعتبر استفزازيا في عرف بعضهم هو بالضرورة استفزازي للجميع؟ هل ما هو استفزازي حكر على الأديان بشكل حصري، أم أنه يشمل، أيضاً، التحريض والدعوات إلى التهميش والقتل والتمييز العنصري، وغيرها مما تضج به وسائل الإعلام العربية؟
"أنا شارلي" ليس انتصاراً لوسيلة إعلامية بعينها، وليس تعاطفاً وتأييداً لمضمون الرسوم الساخرة، أو لشخصية رساميها ضحايا الاعتداء الإرهابي. إنها صرخة تحذير من سيف الرقابة الذي بات يهدد بفرض أمر واقع جديد، يصبح فيه ما يصلح للنشر خاضعاً لترهيب الأفراد أو المجموعات، باسم الدين أو غيره. ولعل "شارلي" الضحية أعادت إلى السطح الانقسام الغربي حول مفهوم حرية التعبير وتطبيقاتها بين دعاة فرض الحدود، وتالياً المزيد من الرقابة الذاتية والمحظورات باسم عدم إهانة هذه المجموعة أو تلك وبين دعاة حريةٍ، حدودها حق الرد والمقاضاة ومقارعة الحجة بالحجة والسخرية بالضحك.
لم ير معظم الإعلام الأنجلوساكسوني في جريمة قتل أبرز رسامي الكاريكاتور الفرنسيين اعتداء على حرية التعبير، بقدر ما رأى فيه عملاً إرهابياً، يضاف إلى الجرائم التي باتت ترتكب يومياً باسم الإسلام. تحليل التفاصيل اللوجستية للعملية والمنابع الإرهابية للمجموعة سيطر على النقاش، وتراجعت المساحات المخصصة لتعبيرات التضامن العاطفية مع ضحايا الجريمة، وما تمثله من انتهاك لأبرز قيم الثقافة الفرنسية. وكذا المساحات المخصصة للنقاش عن مشكلة الضواحي الفرنسية، وتحول هذه الضواحي إلى بيئة منتجة للعنف، ولتصدير الثقافة المضادة للمثل الفرنسية، وأبرزها حرية التعبير.
اختارت معظم وسائل الإعلام الأنجلوساكسونية ألا تنتشر رسوم الكاريكاتور الساخرة من
قبل أعوام، أثارت الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول الجدل نفسه. وقررت غالبية وسائل الإعلام الأنجلوساكسونية أن لا تعيد نشر الرسوم في تغطيتها أخبار التظاهرات الغاضبة في عواصم الغرب. آنذاك، امتنعت هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية (بي بي سي) عن نشر الرسوم، مكتفية بشرح مضمونها في تغطيتها الحدث، وهو قرار تراجعت عنه في تغطية أحداث الاعتداء على "شارلي إيبدو"، إذ أصدرت قراراً بمراجعة سياساتها التحريرية، في ما خص نشر مواد تصور الرسول، معتبرة أن المنع السابق لم يعد مناسباً، وأن فريق التحرير سيمارس حرية اتخاذ القرار التحريري المناسب، بشأن كل حالة على حدة، واستشارة فريق السياسات التحريرية في شأن أي مسائل حساسة في التغطية الإعلامية.
ما هو مقدس وما هو غير مقدس في عرف صحافة السخرية، و"الحدود" التي يقول بعضهم بضرورة مراعاتها؟ في فرنسا العلمانية، تحتل حرية التعبير والفكر المرتبة الأولى في سلم المقدسات. في الجهة المقابلة، يرى آخرون أن المقدسات الدينية لا تقل أهمية عن حرية التعبير التي يجب أن تضع لنفسها حدوداً للتعايش مع المقدسات الدينية، بهدف صون السلام المجتمعي بين المجموعات الدينية المتنوعة. في العالم العربي، لا قيمة لحرية التعبير التي تقمع كل يوم لخدمة الأنظمة وباسم الدين والأمن القومي، وغير ذلك من "مقدسات" تفرض محرماتٍ لا تنتهي على حرية الرأي.
خرجت الحشود في الشوارع الفرنسية، احتجاجا على الإرهاب الذي ضرب البلاد، لكنها خرجت، بالدرجة الأولى، انتصاراً لحرية التعبير التي يريد لها المعتدون أن تمارس الرقابة الذاتية. لدعاة الرقابة الذاتية باسم احترام المقدسات: كيف يمكن تعريف هذه المقدسات، وتحديد من يستحق منها أن تحد حرية التعبير لصالحه، ومن لا يستحق ذلك؟ ماذا لو أصبحت ردود فعل الأفراد والمجموعات مقياساً لما يجب أن تنشره، أو لا تنشره، وسائل الإعلام؟ ما هو تعريف المقدس ومن هي الجهة المخولة وضع هذا التعريف؟ هل ما يعتبر استفزازيا في عرف بعضهم هو بالضرورة استفزازي للجميع؟ هل ما هو استفزازي حكر على الأديان بشكل حصري، أم أنه يشمل، أيضاً، التحريض والدعوات إلى التهميش والقتل والتمييز العنصري، وغيرها مما تضج به وسائل الإعلام العربية؟
"أنا شارلي" ليس انتصاراً لوسيلة إعلامية بعينها، وليس تعاطفاً وتأييداً لمضمون الرسوم الساخرة، أو لشخصية رساميها ضحايا الاعتداء الإرهابي. إنها صرخة تحذير من سيف الرقابة الذي بات يهدد بفرض أمر واقع جديد، يصبح فيه ما يصلح للنشر خاضعاً لترهيب الأفراد أو المجموعات، باسم الدين أو غيره. ولعل "شارلي" الضحية أعادت إلى السطح الانقسام الغربي حول مفهوم حرية التعبير وتطبيقاتها بين دعاة فرض الحدود، وتالياً المزيد من الرقابة الذاتية والمحظورات باسم عدم إهانة هذه المجموعة أو تلك وبين دعاة حريةٍ، حدودها حق الرد والمقاضاة ومقارعة الحجة بالحجة والسخرية بالضحك.