"أنا... دانيال بليك": لماذا تنبهر المهرجانات بالميلودراما السياسية؟

12 فبراير 2017
المخرج البريطاني كين لوتش (Getty)
+ الخط -
في بعضِ الأحيان تبدو الأمور كما لو أن المهرجانات الكبرى ولجان التحكيم فيها تكفر عن ذنوب السياسة بتكريم أفلام سينمائية معينة، فيتكرر في السنين الأخيرة أن تذهب جائزة أفضل فيلم لعملٍ يتعلق بالأقليات أو اللاجئين، أو ــ كما في حالة I, Daniel Blake ــ إلى فيلم "يساري" النزعة، ذي الكثير من النوايا الطيبة والقيم النبيلة، فيفوز بالسعفة الذهبية في مهرجان "كان" 2016، حتى لو كان يتحرك بقصة ولغة سينمائية قديمة وميلودرامية للغاية، تجاه قضيته.

الفيلم من إخراج كين لوتش، المخرج البريطاني الكبير، وكان من المبهر عند إعلان الجوائز كيف أنه في الحادية والثمانين من عمره لا يزال قادراً على صناعة فيلم يفوز بأهم جائزة سينمائية في العالم، ولكن مع مشاهدة الفيلم نفسه ـ والذي يعرض حالياً في سينما "زاوية" بالقاهرة- يزول هذا الانبهار، لأن لوتش، ذا النشاط السياسي اليساري القديم، يحرك فيلمه بأكثر الأشكال مباشرة وصراحة، ويفقد أحياناً الحد الأدنى من السينمائية والصدق، ويصبح السؤال عن الدوافع أو الميول السياسية التي دفعت بالجائزة نحو I, Daniel Blake.

يحكي الفيلم عن "دانيال بليك"، النجار ذو السبعين عاماً، والذي يصاب بأزمة قلبية أثناء إحدى نوبات العمل، ويكون المشهد الأول (على تترات ذات شاشة سوداء) لحوار له مع لجنة الإعانة على العجز والبطالة في بريطانيا، يسألونه أسئلة مستفزة عن استطاعته أن يحرك يده وأصابعه وهل يستطيع التحكم في أوقات التغوّط، وهو يقول، بكرامة ونفاد صبر، إن تلك الأمور تسير بخير وإن قلبه هو المعتل والطبيب أخبره بأنه لن يستطيع العمل. نتيجة تلك المقابلة لا تكون إيجابية، ترى اللجنة أنه ليس "عاجزاً عن العمل بما فيه الكفاية"، وبالتالي لا ينال الإعانة، ويسير الفيلم معه في محاولات متتالية للحصول على "حقه" من الدولة، في نفس الوقت يتعرف بالصدفة على "كيتي"، الأم العزباء العاطلة وأطفالها "ديلان وديزي"، الذين ينتقلون إلى مسقط رأسه في "نيوكاسل" ويحاولون الحصول على إعانة مقابلة مع إفلاسهم التام.

في الساعة الأولى من الفيلم تكون الأمور مقبولة نسبياً، لا يوجد شيء متفوّق، وهناك بعض الصدف المفتعلة مثل الطريقة التي يتعرف بها "بليك" على "كيتي" من الأصل، أو بعض التتابعات المبالغ فيها كعدم قدرته على استخدام الكمبيوتر، وقسوة الموظفين في التعامل معه.


لكن يظل "فيلماً معقولاً" إلا أنه مع تقدم أحداث الفيلم بعد ذلك يتجه "لوتش" إلى أكثر الأشكال الميلودارمية لزيادة "المأساة"، واستدرار تعاطف المشاهد بالضغط على الأبطال: في أحد المشاهد مثلاً تحصل الأم على إعانة طعام، وهي لحظة من المفترض أن تكون "جيدة"، ولكنها تقرر فتح علبة طعام أمام الجميع وتأكلها ثم تبكي لأنها "جائعة". ابنتها تخبرها أن طلاب المدرسة يسخرون منها بسبب حذائها المقطوع، فتقرر أن تعمل في أحد بيوت الهوى، فيذهب لها "بليك" ويدخل عليها الغرفة ويحاول ردعها فتبكي وتقول إن هذا هو "الحل الوحيد"، وصولاً لتتابعات نهاية مأساوية/ثورية مزعجة جداً من فرط افتعالها. هكذا يفقد الفيلم صدقه تماماً مع دخوله في تلك المراحل.

ورغم أن لوتش يتحرك بنوايا طيبة طوال الوقت ناحية "القضية"، وحقق بالفعل أثراً في مناقشة قوانين إعانة العاجزين داخل بريطانيا على مستوى واسع، لكن الدور "الاجتماعي" و"التوعوي" لا علاقة له في الحقيقة بقيمته السينمائية المفقودة، وطبيعته الميلودرامية المفتعلة، فلا يوجد هنا "حكاية" أو "تفاصيل شخصيات" أو ملامح حتى لعوالم لوتش المميزة في أفلامه السابقة، بل تتابعات يزداد فيها الضغط والفلس بالنسبة لـ"بليك" و"كيتي" على التوازي، ومع كل تتابع يزداد "صراخ" الفيلم وزعيقه وتضيع هويته السينمائية والإنسانية في مقابل اهتمامه بـ"قضية".



المساهمون