"أمراض" الحركة القومية الكردية تفضحها الحرب التركية

16 اغسطس 2015
مسيرة لمناصري "الكردستاني" في بروكسل الشهر الماضي(جون ثايس/فرانس برس)
+ الخط -
أثبتت الحملة العسكرية التي يشنّها سلاح الجو التركي على معاقل حزب "العمال الكردستاني" في إقليم كردستان العراق، مدى تمزّق أحزاب وتيارات حركة التحرر القومي الكردي، والتي بدا بأنّ لا شيء يجمعها سوى تحالفاتها الإقليمية، وأحياناً حلم  كردستان الكبرى؛ الأسطورة القومية التي لا تزال مستعصية أو مستحيلة؛ مستحيلة، وبدا وضع الأكراد غير بعيد عن وضع العرب في كل من سورية والعراق الذين تمزقهم الصراعات الإقليمية.


اقرأ أيضاً: أردوغان يعلن انتهاء عملية السلام مع "العمال الكردستاني"

رغم الإنجازات التي حققتها الحركة القومية الكردية خلال العقد الأخير، سواء من ناحية الإعلان الرسمي لإقليم كردستان العراق، والذي بات كياناً أقرب إلى الدولة من أي وقت مضى، أو الخرق المهم الذي حققه حزب "الشعوب الديمقراطي" (ذي الغالبية الكردية) في الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة، غير أن الحرب التي أعلنتها أنقرة أخيراً على حزب "العمال الكردستاني" أظهرت بمكان مدى هشاشة هذه الإنجازات.

من جهة ثانية، كشفت عن الخلافات بين الأكراد أنفسهم، بل وبدت معاهدة قصر شيرين (1639) الموقعة بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية، والتي قسمت الإمارات والأراضي الكردية بين نفوذ الدولتين، محوّلة إياهم إلى خط دفاع أول، وكأنها لا تزال سارية حتى الآن، باختلاف أسماء الدول والقادة. وهكذا بقي "العمال الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" (حزب رئيس العراق جلال طالباني) من حصة طهران، بينما الحزب "الديمقراطي الكردستاني" بقيادة رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني من حصة أنقرة.

لم تكن المعركة التي اندلعت مجدداً بين "العمال الكردستاني" وأنقرة، إلا تجلياً آخر لهذه التحالفات والصراعات الإقليمية. وإذا كانت أنقرة قد أعلنت الحرب على تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وعلى "الكردستاني" معاً، فإن هذه الحرب ليست إلا جزءاً من المعركة ضدّ النفوذ الإيراني في المنطقة، بضرب أحد أهم حلفائها، أي "الكردستاني"، وضرب أحد أهم مبررات بقاء حليفها الآخر، أي الرئيس السوري بشار الأسد، عبر القضاء على التنظيمات المتطرفة التي يأتي في مقدّمتها "داعش".

خلاف "الكردستاني"

رغم تمسكه بصورة الزعيم القومي، لم يُبدِ مسعود البرزاني أو حتى باقي مسؤولي إقليم كردستان حزناً أوغضباً لمُصاب رفاق الكُردياتي أو "كورداية تي"، كما تكتب في الأبجدية العربية للغة الكردية، وتوازي ما اصطلح على تسميته فى الفكر القومي العربي "بالعروبة". فقد اتخذ البرزاني في تصريحاته موقفاً وسطياً بين الطرفين، مبدياً الاستعداد للوساطة، مع ميل واضح نحو أنقرة. بل وكانت ملامح الشماتة واضحة برفيق الكوردياتي الذي تغوّل على إربيل خلال العامين الماضيين، مستغلاً وقف إطلاق النار مع أنقرة، وأيضاً الدعم الدولي الذي حازه في المعركة التي شنها ضد "داعش" في كل من سورية والعراق.

بدوره، لم يتردد "الكردستاني" بالتعاون مع القوات الإيرانية في توجيه ضربة قوية، في وقت سابق، للجناح الإيراني للحزب "الديمقراطي الكردستاني"، على الحدود الإيرانية العراقية، قبل أن ينافس إربيل ذاتها في نفوذها على أكراد العراق، عبر إعلانه عن إنشاء كانتون (إدارة ذاتية) تابع له في منطقة جبل سنجار في محافظة الموصل، قبل أن يتراجع عن ذلك في وقت لاحق.

التمزّق بين قيادتين.. ودولتين

تتمزّق الحركة القومية الكردية الآن، بين قيادتين رئيسيتين أولاهما عائلة البرزاني في العراق، وثانيتهما تتمثل في زعامة عبد الله أوجلان، قائد الحركة القومية الكردية في تركيا، وذلك بينما بات حزب "الاتحاد الوطني الكردستاني" بحالة يرثى لها بعد خفوت صوت زعيمه جلال الطالباني إثر المرض.

وفيما تبدو قبضة طهران قوية ومتماسكة على أكرادها، انسحب الصراع الإقليمي بين طهران وأنقرة على أكراد سورية، الذين بقوا وعلى مدى عقود بفضل سياسات دولية ومحلية، ونتيجة ارتباطات قيادات الحركتين بكل من إربيل وقنديل، كبش محرقة لحرية إخوانهم، من دون أن يستطيعوا تحقيق أبسط الحقوق لأنفسهم.

وحين اهتزت سلطة حليف إيران في دمشق، أي النظام السوري بعد الثورة، تحت ضربات المعارضة المدعومة من أنقرة، سلّم النظام المناطق ذات الغالبية الكردية لعدو أنقرة وحليف طهران الكردي، أي "العمال الكردستاني" عبر جناحه السوري حزب "الاتحاد الديمقراطي"، الذي قام بطرد جميع الأحزاب الكردية الموالية لإربيل، مستعيداً ورقة أكراد سورية في حربه على أنقرة، لتتحول مناطق الإدارة الذاتية، التي أعلن عنها الحزب في سورية، فجأة، إلى شأن داخلي تركي، بلغت ذروته أثناء معركة عين العرب في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، والتي بدت وكأنها مدينة تركية. وأشعلت أزمة حقيقية في الداخل التركي أودت بحياة أكثر من أربعين كردياً في اشتباكات بينية بين "العمال الكردستاني" و"حزب الله" الكردي (موالٍ لأنقرة). 

خلافات الحركة القومية بتركيا

لكن لا تتوقف المنافسة والخلافات على جناحي الحركة القومية الكردية في كل من العراق وسورية، بل أصبح التنافس على أشده  في الحركة القومية في تركيا، بين قنديل و"الشعوب الديمقراطي" بعد الشرعية العالية التي اكتسبها الأخير إثر نجاحه الكبير في الانتخابات البرلمانية في يونيو/ حزيران الماضي.

لم يكن هذا التنافس هو الأول في تاريخ "الكردستاني"، إذ دخل الأخير بعد إلقاء القبض على أوجلان في عام 1999 في صراعات داخلية بين "إصلاحيين" ممثلين بعثمان أوجلان (أخ عبد الله أوجلان)، ومن ثم نظام الدين تاش وقاني يلماز، من جهة، ومحافظين ممثلين بجميل بابك ومراد كرايلان ودوران كالكان، من جهة ثانية، لتنتهي المعركة بين الطرفين حينها لصالح المحافظين. وبقي هؤلاء يديرون سياسات "الكردستاني" بقبضة حديدية.

وعلى الرغم من الالتزام الإعلامي بمراجعات عبد الله أوجلان، غير أنها بقيت إصلاحات شكلية، حافظت على البنية "الستالينية" للحزب، وسلطة الجيل الأول الرافضين لوجود أي شريك في السلطة أو في صنع القرار. بينما خرج عثمان أوجلان وقاني يلماز ونظام الدين تاش من الحزب، وأنشأ الأخير حزباً باسم الحزب "الديمقراطي الوطني" في إقليم كردستان العراق يدعو إلى النضال السلمي وترك السلاح، ولا يتوقف عن انتقاد قيادة قنديل.

"الشعوب" ينافس قنديل

بقدر ما تحولت قيادة "الشعوب الديمقراطي" بعد نجاحاتها إلى مصدر إزعاج كبير لليمين التركي ممثلاً بكل من "العدالة والتنمية" وحزب "الحركة القومية" (يميني متطرف)، أصبحت أيضاً منافساً قوياً لشرعية قيادة قنديل العسكرية، أي الحرس القديم لـ"الكردستاني"، بعد نجاحها الواسع بتطبيق مراجعات أوجلان، والاندماج بالشأن السياسي التركي، ومدّ نفوذها من الكتلة اليسارية الكردية، التي تمثلها قاعدة "الكردستاني" إلى الكتلة اليمينية الكردية المتدينة التي كانت لعقود من حصة "العدالة والتنمية". وأكثر من ذلك، استطاع "الشعوب الديمقراطي" الحصول على أصوات الأقليات والتيارات اليسارية الماركسية التركية المختلفة.

حاولت قيادة قنديل في بداية الأمر التعامل مع "الشعوب الديمقراطي" على طريقة تعاملها مع حزب "السلام والديمقراطية" (الجناح السياسي الأخير للكردستاني)، أي على اعتباره جناحاً سياسياً لها. ونجحت في بداية الأمر بالضغط على قيادة "الشعوب الديمقراطي" للتنازل عن موقفه المتشنج من الحوار مع "العدالة والتنمية"، في ما يخص الحكومة الائتلافية. غير أن ذلك عرّضها لانتقادات شديدة من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، متهمين إياها بتلقي الأوامر من "المنظمة الإرهابية" في قنديل، ما وضع "الشعوب الديمقراطي" بين مطرقة "الكردستاني" وسندان اليمين التركي.

وإذا كان تيار "العمال الكردستاني" هو الأقوى في الحزب، غير أن نتائج الانتخابات أظهرت أنه لا يشكل غالبية بمفرده. فمن ضمن 13 في المائة من الأصوات التي حصل عليها "الشعوب الديمقراطي"، لم تتجاوز حصة "الكردستاني" فيها الـ6.5 في المئة، بينما تذهب باقي الأصوات لليمين الكردي واليسار التركي، الذي لن يرضى بأن يكون واجهة سياسية للحرس القديم في قنديل.

اقرأ أيضاً: ضغوط تركية في "عملية السلام" لإحداث الشرخ بـ"البيت الكردي" 

إسقاط تفرّد أوجلان

وقد عرفت قيادة "العدالة والتنمية" كيف تتلقف ذلك. وبدأ أردوغان بالحديث عن تغيير كامل لقواعد اللعبة، وبالذات في ما يخص عملية السلام؛ فالقواعد القديمة المتمثلة بالحوار المباشر مع أوجلان في سجنه في جزيرة إمرلي، ومع قنديل عبر وساطة "الشعوب الديمقراطي" لم تعد ممكنة، لأنها منحت الأخير، بنظر "العدالة والتنمية"، شرعية تقديم نفسه كداعٍ للسلام، أكسبته شعبية عالية أطاحت بانفراد "العدالة والتنمية" بالحكم. وتحدث أردوغان عن نقل عملية السلام برمتها إلى البرلمان، باعتبار أن "ممثلي الكردستاني" باتوا قوة شرعية لا يستهان بها في البرلمان، وبالتالي لن يعود "الشعوب الديمقراطي" وسيطاً بين أنقرة وقنديل بل "ممثلاً شرعياً ومعنياً وحيداً بالقضية الكردية، التي باتت بدورها مشكلة كردية كباقي مشاكل الأتراك التي تعمل الحكومة على حلها"، ما يعني سحب شرعية أوجلان كمحاور وحيد وشرعية قنديل كمخاطب وحيد، ودخول القضية الكردية منحى مختلفاً تماماً. وبدلاً من التفاوض مع الحكومة باتت عملية الحصول على الحقوق الكردية، نضالاً صعباً وبطيئاً في البرلمان يحتاج مواجهة مختلف الأحزاب التركية، وسياسات الاستيعاب المستمرة.

وفي محاولة لاستعادة شرعية المخاطَب من "الشعوب الديمقراطي"، أعلن اتحاد المجتمعات الكردستانية (المظلة التي تعمل تحتها جميع التنظيمات التابعة لـ"الكردستاني")، انتهاء وقف إطلاق النار مع الحكومة التركية، وذلك قبل إعلان أنقرة الحرب عليه بأكثر من أسبوع، بل وصعّدت بشكل أكبر مستغلة التفجير الانتحاري الذي حدث في سروج، وبدأت بعمليات اغتيال طالت شرطة ومدنيين أتراك بحجة دعم أنقرة لتنظيم "داعش".

ترسيخ شعبية "الشعوب"

أظهرت الحرب التركية على "الكردستاني" في بداية الأمر ارتباكاً واضحاً لحزب "الشعوب الديمقراطي"  وضغطت عليه من ناحية دعوته إلى إدانة تصرفات "الكردستاني الإرهابية". لكنه استدرك الموقف، واستمر في دعوته إلى وقف إطلاق النار والسلام. وعبّر عن تعاطفه مع جميع القتلى، بل غيّرت الحرب الموقف السياسي الداخلي لناحية تكوين جبهتين؛ فبات "الشعوب الديمقراطي" مع "الشعب "الجمهوري" في الجبهة اليسارية، في مواجهة الجبهة اليمينية المكونة من "العدالة والتنمية" و"الحركة القومية".

ما إن بدأت الاشتباكات بين "الكردستاني" والجيش التركي، حتى عاد الحديث في الأوساط الإعلامية عن العودة لأوضاع التسعينات السيئة. لكن ذلك بدا بعيداً تماماً عن الواقع؛ ففي الوقت الذي كان فيه "الكردستاني" منهمكاً في حربه ضدّ "داعش" والمعارضة السورية، كان الجيش التركي يمرّ بمرحلة تحديث عالية في جميع المجالات جعلته أكثر كفاءة في مواجهة حرب العصابات، كما استغلت أنقرة وقف إطلاق النار لزيادة الاستثمارات في المناطق ذات الغالبية الكردية، الأمر الذي ترافق مع نجاح "الشعوب الديمقراطي" في الدخول إلى البرلمان بقائمة حزبية. فلم يعد الجيش التركي الآن هو الجيش إياه الذي قتل ودمر آلاف القرى. ولم يعد الأكراد مهمشين ومبعدين، بل وظهر عامل آخر وهو ضغط رجال الأعمال الأكراد التي تعني الحرب بالنسبة لهم خراب أعمالهم. عوامل دفعت الرأي العام الكردي إلى الشعور بأنه ممثل في أنقرة وغير مهمّش. الأمر الذي ترافق مع  انتعاش اقتصادي، ما جعله غير متحمس للعنف وأكثر التصاقاً بمشروع "الشعوب الديمقراطي" المسالم، الأمر الذي بدا واضحاً في قدرة الأخير على ضبط الشارع في مناسبات عدة، وبالتالي ساهمت الحرب في ترسيخ  شرعية "الشعوب الديمقراطي" على حساب شرعية قنديل، على الأقل في الشارع الكردي.

انحسار "الكردستاني"

على المستوى الخارجي، بدا "الكردستاني" أقل قوة؛ فالحرب التركية عليه كانت بالتنسيق مع واشنطن، التي لم تتردد في التخلي عنه كحليف في مواجهة "داعش" لصالح "الحليف الاستراتيجي التركي"، وذلك بعدما كبح الاتفاق النووي بين الغرب وإيران عدوانية الأخيرة في المنطقة. لذا، يستبعد أن تدفع إيران "الكردستاني" لتصعيد أكبر مع أنقرة، في وقت تسعى فيه لإنجاح الاتفاق النووي، والتقرّب من حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين وباقي القوى الكبرى.