"ألاقي زيـَّك فين يا علي"

24 فبراير 2015
+ الخط -

عام 1972، خطفت مجموعة فدائية، بقيادة الشهيد علي طه، الملقب بالكابتن رأفت، طائرة سابينا البلجيكية إلى مطار اللد، مطالبة بإطلاق سراح مائة من أبناء الثورة المعتقلين في سجون الاحتلال الإسرائيلية. وفي حين كان يجري التفاوض مع الصليب الأحمر، اقتحم فريق الإنقاذ الإسرائيلي الطائرة، فاستشهد الملازم أول علي طه، قائد العملية، عن عمر يناهز 33 عاماً.
اليوم، تعود رائدة طه، ابنة الشهيد علي طه، إلى تلك اللحظة - الفترة، عبر ومضات من الذاكرة، تروي فيها بعفوية تامة، ومن دون تراتب زمني، مشاهد تدور في المكان الذي لا تذكره الشهادة، المكان الخلفيّ، حيث تفقد كلماتٌ، كالبطولة والثورة والتضحية وفلسطين، بعضاً من هالتها، إذ تواجَه بأخرى، هي اليتم والتخلّي والفقد وعدم الفهم. فالفدائي الذي راح إلى موته مخيّراً، خلف وراءه زوجة شابة وأربع طفلات، كانت رائدة البالغة حينها سبع سنوات، أكبرهن.
تروي رائدة طه إذاً حالة اليتم التي أدركت قسوتها الفعلية، يوم حاولوا التعدي عليها، فاحتاجت سنداً لم تجده، علاقتها بأبو عمار الذي عملت إلى جانبه، وأصبح بمثابة الوالد لها، مغامرات فتحية والدتها كـ "أرملة شهيد"، وقد فقدت زوجها، وهي بعد في السابعة والعشرين، ذكرياتها هي وتساؤلاتها حول معنى أن تكون ابن أو ابنة شهيد، حيث إنك لم تطلب شيئاً، ولا تعي شيئاً، أكثر من كون أبيك قد تخلّى عنك، لأنه، على ما يبدو، يحب فلسطين أكثر منك، وأخيراً غرابة أن تصبح جزءاً من مؤسسةٍ، تُدعى "أبناء الشهداء"، لها أهلها وطقوسها وقوانينها وامتيازاتها.
وتبلغ رائدة طه لحظة الذروة، حين تروي على لسان عمتها سهيلة، ما فعلته الأخيرة لاستعادة جثة أخيها الموضوعة في البراد منذ عامين، هي التي أقسمت ألا تتدثر، لا صيفاً ولا شتاء، ما لم يدفن أخوها ويصلّى عليه. سهيلة نسخة عربية فلسطينية من أنتيغون، بطلة التراجيديا الإغريقية التي تحمل الاسم نفسه، والتي قاومت خالها كريون، الملك الحاكم الطاغي، فتحدّت أوامره، ودفنت أخاها غصباً عنه. هكذا تبدو النساء في نص "ألاقي زيك فين يا علي" (لغاية 7 مارس/آذار، على مسرح بابل – الحمرا – بيروت)، فاعلات ومقاومات وبطلات، يترمّلن ويتيتّمن، ويواسين ويربين ويحمين، يهدهدن الفقد، يمسحن آثار الخراب، ويطالبن بالجثة، ثم يستعدنها، حتى ولو اقتضى الأمر الكتابة إلى كورت فالدهايم، والصليب الأحمر، والذهاب إلى كينسجر نفسه في أثناء زيارته القدس، لمطالبته باستعادة الجثمان.
تروي لنا رائدة طه هذا كله وسواه، في نصها الجميل المضبوط، من دون زيادة أو نقصان، بشفافية وسخاء، بطرافة ومن دون مغالاة، وبلا مواربة، أو مساومة، أو تلفيق، فتبرز جليةً موهبتها الاستثنائية، في وضع المسافة النقدية الضرورية في زمن اضمحلت فيه كل مسافة، كما يظهر واضحاً نضج التجارب التي عاشتها، حين حملتها من بيروت، إلى تونس، إلى رام الله، إلى القدس، إلى عمان.
أيضاً، عرفت المخرجة اللبنانية، لينا أبيض، كيف تنحاز في خيارها إلى البساطة، مفسحة للبوح، فتخلي المسرح من كل ما يعيق التركيز على رائدة المؤدّية، وعلى نصّها الذي روته بحرفة الممثل - الحكواتي، مقررة أن تتراجع، تواضعاً، لتترك المجال كله لخصوصية هذه التجربة، وحميميتها، مكتفية بصور فوتوغرافية أو متحركة ظهرت في الخلفية، وبكنبة كبيرة احتلت مقدمة المسرح، حيث جلست رائدة طه ما يقارب الساعة ونصف، ولم تنهض منها إلا لماماً.
ساعة ونصف مرت كطرفة عين، ممتعة، مشبِعة، مضحكة ومحزنة، ملقية على قلوبنا غلالة من الذكاء والطرافة والخفة والحب، وانتهت بأغنية صباح "ألاقي زيّك فين يا علي"، وفي ذلك تلميح ذكي لذلك الزمن الثوري الجميل، الذي يبدو، اليوم، وكأنه لم يكن لنا، وكأنه مضى من دون أن يخلف، فينا، علينا، أي أثر.

 

 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"