في إطار سعي النظام المصري للسيطرة على قواعد السلطات والهيئات المختلفة في الدولة، تبحث وزارة العدل مع هيئة الرقابة الإدارية والمخابرات العامة مشروعاً لإنشاء أكاديمية لتخريج القضاة الجدد، بسلطات وصلاحيات واسعة تلغي تقريباً صلاحيات المجالس العليا للهيئات القضائية في اختيار أعضائها الجدد من بين خريجي كليات الحقوق والشرطة والشريعة في الجامعات المختلفة، وتخلق حاضنة جديدة لتفريخ جيل جديد من القضاة بمعايير أمنية ورقابية طاغية على معايير الكفاءة العلمية والقانونية.
المشروع الجديد يتمثل في إنشاء هيئة تعليمية دائمة باسم "أكاديمية القضاة" تكون تابعة لوزارة العدل، يلتحق بها دورياً جميع الخريجين الجدد الذين تختارهم المجالس العليا للهيئات القضائية كمرشحين للعمل في تلك الهيئات، كمعاونين للنيابة العامة أو قضاة في مجلس الدولة أو أعضاء في النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة. فبعد اختيار المرشحين بواسطة اختبار تحريري وآخر شفهي واجتيازهم اختبار القبول، وبعد إرسال أسماء المرشحين لجهاز الأمن الوطني وهيئة الرقابة الإدارية للإفادة بالتحريات الأمنية والمالية عنهم وعن ذويهم، سيتم إلحاق المرشحين المجازين أمنياً ورقابياً بالأكاديمية، لبدء فترة دراسة ومعايشة تستغرق 6 أشهر تقريباً، سيتم من خلالها تحديد القضاة الجدد، مع خروج باقي المرشحين خاليي الوفاض.
ومن المقرر، وفق المشروع، أن يكون نصف المواد التي سيدرسها طلاب هذه الأكاديمية ذات طابع قانوني متصل بعملهم القضائي المستقبلي، أما باقي المواد فستكون ذات طابع أمني وعسكري وسياسي ودبلوماسي، وسيُلقّنون محاضرات عن حروب المعلومات والأمن الاستراتيجي، شبيهة بالمواد التي يدرسها طلاب أكاديمية ناصر العسكرية والأكاديمية الوطنية لتأهيل الشباب للقيادة حالياً.
وإلى جانب الدراسة، ستُخصص فترة معايشة داخل الأكاديمية، ستكون فرصة مثالية لمتابعة المرشحين عن كثب، وإعداد تقارير عن طباعهم الفكرية واتجاهاتهم السياسية، ومقترحاتهم لتطوير الهيئات القضائية التي سيعملون بها، وآرائهم في القضايا ذات الطابع القانوني التي تشغل الرأي العام، والأنشطة التشريعية.
اللافت أن النظام يبحث هذا المشروع في وقت زادت فيه القيود الأمنية والرقابية على المرشحين لعضوية السلك القضائي بصورة ملحوظة، فبعدما كان جهاز الأمن الوطني في الداخلية وحده هو من يملك التوصية باستبعاد المرشحين لانتماءات أقاربهم أو ممارستهم نشاطاً سياسياً، دخلت الرقابة الإدارية المعادلة مستفيدة من توسيع صلاحياتها المطرد في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، وباتت تعد تقارير مالية وأمنية أيضاً عن المرشحين وأسرهم وأقاربهم حتى الدرجة الرابعة، فضلاً عن استبعاد من يملكون صلات اجتماعية مع قيادات ونشطاء جماعة الإخوان والتيارات الإسلامية والثورية.
مصادر قضائية تؤكد، لـ"العربي الجديد"، أن "السبب الرئيسي الذي دفع النظام إلى وضع هذا المشروع هو الزيادة المفرطة في عدد القضاة الشباب الذين يستقيلون من الهيئات المختلفة بعد قضاء بضعة أعوام نتيجة عدم رضاهم عن الطريقة التي يدار بها القضاء، أو لضيقهم ذرعاً من التدخلات الإدارية والأمنية في عملهم، أو لتبنّيهم مواقف معارضة للنظام، بعدما كانت التقارير الأمنية عنهم على ما يرام وقت تعيينهم في القضاء".
تضيف المصادر أن "العامين الماضيين كذلك شهدا استقالة عدد من القضاة الشباب بعد خروجهم في بعثات لدول أجنبية، بعدما تعرّضوا لثقافات قانونية جديدة وأجواء عمل مختلفة، بينما استقال البعض بسبب اصطدامهم بالقيود المشددة التي تمارسها إدارات هيئاتهم عليهم، مثل منعهم من إبداء الرأي في المشاكل العامة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتأكدهم من إخضاعهم لمراقبة على تلك المواقع وفي الواقع العملي أيضاً، إلى حد منع ترقية بعض القضاة المستحقين وتخطيهم في بعض المزايا لأسباب سياسية بحتة".
تقول المصادر إن "هذه الظواهر الجديدة تضافرت لتولّد لدى النظام حاجة ماسة لخلق آلية جديدة لتفريخ القضاة بدلاً من الآلية القديمة المعمول بها منذ عهد الرئيس الراحل أنور السادات، والتي كما أسهمت في ترسيخ ظاهرة التوريث في القضاء والعائلات القضائية، أدت أيضاً إلى وجود أجيال من القضاة يصعب السيطرة عليهم سياسياً، فلكل منهم فكره الخاص واتجاهاته التي يأبى إخضاعها لهوى النظام، على الأقل في ممارسته لعمله".
وتوضح المصادر أن "وزارة العدل متخوفة من ردة فعل بعض الهيئات التي من المتوقع أن تغضب، لأن الأكاديمية الجديدة ستكون بمثابة مفرزة نهائية للمرشحين الذين اختارتهم الهيئات بالفعل، وهو ما قد يعتبره شيوخ القضاة تقليلاً من احترامهم وإضعافاً لسلطاتهم، فالترتيب النهائي للملتحقين بالهيئة سيخضع لمعايير واختبارات الأكاديمية فقط، وليس لكشوف المرشحين المرسلة من الهيئات ذاتها".
وتشير المصادر إلى أن "هذه المخاوف قد تؤدي إلى تغيير جزئي في المشروع، بحيث يكون الالتحاق بالأكاديمية خطوة سابقة على خطوة الاختيار النهائي، مع تركها للمجالس العليا للهيئات القضائية، بحيث تختار من بين خريجي الأكاديمية في الأساس، وفي هذه الحالة سيكون الالتحاق بالأكاديمية تالياً مباشرة للتخرج من كليات الحقوق".
وكانت "العربي الجديد" قد كشفت، في فبراير/شباط الماضي، أن "الأعضاء الشبان الجدد بهيئتي النيابة الإدارية وقضايا الدولة تلقّوا محاضرات على يد ضباط جيش وضباط شرطة خلال دورة الخبرة القضائية الأولى التي حصلوا عليها بعد نجاحهم في الالتحاق بالهيئتين، وهي الدورة السنوية التي تنظمها الهيئتان لصقل المهارات والمعارف القانونية لأعضائهما الجدد".
وعندما سأل الأعضاء الشباب عن سبب إقحام مواد أمنية وعسكرية واستراتيجية في الدورة التي من المفترض أن تخصص لدراسة التطبيقات القضائية وتدريب الشباب على يد الأعضاء الأكبر سناً والأكثر خبرة، كانت الإجابة على الأسئلة من بعض أعضاء الأمانة العامة للهيئتين بأن "هذه تعليمات من وزير العدل حسام عبد الرحيم، حتى يعرف أعضاء الهيئات القضائية الجدد المزيد عن المخاطر التي تهدد الأمن القومي المصري من الداخل والخارج، والدور الذي يجب أن تلعبه السلطة القضائية بهيئاتها المختلفة مع باقي السلطات للدفاع عن الدولة".
ويترأس جميع الهيئات القضائية المصرية حالياً مستشارون معينون بقرار جمهوري من السيسي بالمخالفة لقاعدة الأقدمية المعمول بها منذ نشأة القضاء المصري، استناداً للقانون الذي أصدره في إبريل/نيسان 2017 والمطعون عليه أمام المحكمة الدستورية حالياً، والذي استُبعد بسببه المستشاران يحيى دكروري وأنس عمارة من رئاسة مجلس الدولة ومحكمة النقض على الترتيب، بسبب تقارير أمنية اعتبرتهما من معارضي النظام، بسبب إصدار الأول حكماً بمصرية جزيرتي تيران وصنافير، وتأييد الثاني لتيار الاستقلال القضائي في العقد الماضي.
وبعد أحداث منتصف 2013 والإطاحة بحكم الرئيس المنتخب محمد مرسي وجماعة الإخوان؛ تم إقصاء العشرات من القضاة وأعضاء النيابة الإدارية وقضايا الدولة بتهمة الانتماء لحركة "قضاة من أجل مصر" والعمل لمصلحة جماعة الإخوان والاشتراك في فعاليات سياسية لمساندة مرسي، كما تم إدراج بعضهم على قائمة الإرهاب بعد اتهامهم في قضايا مختلفة.