28 مارس 2024
"أخلاقيات" الإعلام لمواجهة الافتراء والتحريض
في الأسابيع الماضية، مرت وسائل الإعلام في الأردن بتحديات وضغوط خارجة عن المألوف، وتعرضت لحملات نقد، كان بعضها يحمل حرصاً ووجاهة في العرض والمضمون، وكان كثير منها تضليلاً واجتزاءً وتأويلاً، وذهب بعضها إلى الشتم والتحقير، وبث خطاب الكراهية والطائفية.
لا نريد الدفاع عن أحد، ولا تقديم المبررات، ولسنا قضاة ندين أو نقدم صكوك البراءة، لكننا نحرص على أن لا تتعرض حرية الإعلام للانتقاص والتقويض بشائعات ملفقة، ونسعى إلى التبصير بممارسات فضلى، تتبع بوسائل إعلام عالمية، وبمعايير دولية للإعلام، تحتكم لها الصحافة والمجتمع في آن واحد معاً.
أول ضحايا الحملات، ولا نعرف إن كانت منظمة أو مبرمجة، كانت جريدة الغد، بعد خبر قصير عن اتهامات لمسؤول بالتحرش الجنسي، من دون ذكر لاسم أو منصب، ومن دون التلميح أو التصريح بأي معلوماتٍ، يمكن أن يستدل بها عن هويته. وتبع ذلك إغلاق استوديوهات قناة اليرموك للبث المباشر، بحجة أنها غير مرخصة، مع أنها تبث منذ سنوات. وأُغلق المشهد على قصة برنامج "محطات مفروضة" الذي بثته قناة رؤيا، فاجتزئ مقطع بسيط منه، لا يتجاوز ثلاث دقائق، ووضع على "فيسبوك"، مع اتهامات بأنه يحمل ايحاءات جنسية، بل تجاوز الأمر ذلك بكثير إلى الدعوة إلى مقاطعة القناة، تحت شعارات متعددة أبرزها "أنا مسلم، أنا أقاطع رؤيا".
والحقيقة التي يجب أن تقال، بداية، إن الإعلاميين والصحافيين يخطئون فهم ليسوا "أنبياء"، وهذا مألوف، ويحدث في الأردن وكل دول العالم، وهناك معايير متعارف عليها دولياً للتصحيح والرد والإنصاف، تتبعها وسائل الإعلام، احتراماً لمصداقيتها وحفاظاً على صورتها وتقديرها للجمهور. وهذا الإجراء حين تلجأ إليه وسائل الإعلام، مهما كانت، لا يمنع من مساءلة الإعلام ومخاصمته واللجوء إلى القضاء أو مجالس الشكاوى، لتتحمل مسؤوليتها بكل شفافية عن الخطأ الذي ارتكبته.
وسائل التصحيح والرد والإنصاف بالتأكيد سلوك مهني وأخلاقي، وأحياناً قانوني، لكنه أبداً،
وكما قال مرصد "أكيد" التابع لمعهد الإعلام الأردني، لن يكون عبر محاكماتٍ، وجلد لا يحكمه نسق أو منطق يتم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا لا يعني كذلك أن وسائل الإعلام لا تقبل بالرقابة المجتمعية، سواء كانت عبر "فيسبوك" أو "تويتر"، بل العكس، فإن هذا التطور بمنظومة الاتصال والتفاعل اللحظي فرض على وسائل الإعلام أن تتعامل مع هاجس أنها تحت "عين" المجتمع طوال الوقت، ومن لا يقبل بهذه المحددات الجديدة التي أدخلتها تكنولوجيا الاتصال سيجد نفسه خارج "الملعب"، ولن يكون قادراً على استقطاب الجمهور الذي يريد أن يكون هو صانع الحدث أيضاً.
هذه التحولات التي فُرضت، وأصبحت حقيقة ماثلة، ليس ما حدث وواجهته وسائل الإعلام الأردنية. وعلى سبيل المثال، فإن خبر جريدة الغد بنيت عليه رواياتٌ لا تمت لمضمونه، وتسبب هذا التضليل، المتعمد وغير المتعمد، بإساءات لم تكن الجريدة طرفاً فيها، وهو ما اضطرها، صدورا عن واجب أخلاقي ومجتمعي وحماية لسمعة الآخرين، أن تقدم توضيحات شجاعة، كانت في غنى عنها، لو لم يجر توظيف الخبر في "معارك" سياسية.
وما حدث مع "الغد" تعرضت له قناة اليرموك، في حملة تحريض وتأييد لإغلاقها من بعضهم، ولأسباب سياسية مرتبطة بهويتها، من دون الالتفات إلى معايير ومعاهدات دولية، تضمن حق تملك وسائل الإعلام، من دون تضييق وتعجيز بشروط الترخيص، والرفض غير المبرر. وتكرر الأمر مع قناة رؤيا بحملة شعواء، نقلت الأمر من عرض برنامج ساخر، نتفق فيه مع مرصد "أكيد" بأن محتواه ليس ملائماً، إلى مطالبات بإغلاق القناة، والتحريض عليها وتوجيه الاتهامات الطائفية لمالكها.
أما وقد هدأت عاصفة الحملات في وسائل التواصل الاجتماعي، فإن وسائل الإعلام مطالبة بتعلم الدروس، والبدء بحملة مراجعة وتقييم لعملها، وعليها أن تتذكّر دائماً أن "أعين" الناس لم تعد غافلة عنها، وأن الخطأ الذي كان يمر في الماضي، من دون أن يلتفت له أحد، أصبح الآن وبفضل "فيسبوك" أو نقمته، وغيره يكبر ويوضع تحت المجهر، وليس هذا فقط، بل عرضة للتأويل، وبناء قصص لم تخطر ببال حتى الصحفيين الذين كتبوها، فماذا نحن فاعلون؟
من المهم أن تبدأ وسائل الإعلام في الأردن بورشات عمل، سواء داخلية في المؤسسات، أو على مستوى جمعي، وبالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني لتطوير "مدونات سلوك" تحترم معايير الصحافة المحترفة، وتراعي الحساسيات المجتمعية والتنوع، وتشرك الجمهور بصناعتها ومراجعتها، والأهم أن تعلن عنها لجمهورها بطرق بارزة، وتضع آليات للاحتكام لها، والاعتداد بها للإعلاميين والجمهور على حد سواء.
والوقت الآن مناسب وضروري جداً، لتبدأ وسائل الإعلام بتعيين رقيب الجمهور
"Ombudsman"، وهو تقليد معمول به في وسائل إعلام محترفة ومرموقة، على أن يكون مستقلاً، وله صلاحيات واسعة بتلقي شكاوى الجمهور والتحقيق والمساءلة داخل المؤسسات الإعلامية، إن خرجت عن مدونات السلوك، أو لم تراع المعايير الدولية للاحتراف والمهنية الصحفية والدفاع عن حرية إعلامييها واستقلاليتهم.
إن فعلت وسائل الإعلام ذلك الآن، فإنها تتجنب ضغوطاً وتحديات كثيرة، وتترك لهذا الخبير المستقل أن يحاسبها بكل شفافية، وأن ينصف الجمهور وينصف وسيلة الإعلام من الافتراءات، وتساهم هذه الممارسة في صناعة فقه للأخلاقيات الصحفية، ربما تعامل مثل السوابق القضائية وتبنى عليها، وتقلل الضرر على صورة الإعلام، وقد تسهم في تقليص الشكايات ضدها في المحاكم.
ولا تكتمل هذه الحلقات المهنية من دون المبادرة العاجلة إلى تأسيس "مجلس الشكاوى"، على غرار تجارب دولية عديدة في العالم، وربما يدفع ما صادفناه من تحديات الحكومة، وتحديداً وزير الدولة لشؤون الإعلام، للإسراع في وضع هذا الأمر موضع التنفيذ، مع العلم أن الفكرة تناقش بجدية الآن، ويجري العمل لبلورة أحسن تصور ليعطي المجلس قوة دفع لوجوده. وشخصياً أعتقد أن ضمان استقلاليته، واختيار خبراء مرموقين لإدارته، ومباركة الجسم الإعلامي والالتفاف حوله، الخطوة الأساسية حتى يرى النور، ويكون فاعلاً ومؤثراً.
هذا من جانب الإعلام، فكيف يمكن الإسهام في تطوير محتوى وسائل التواصل الاجتماعي، ليصبح المغردون والنشطاء على صفحات "فيسبوك" أكثر صدقية، وأكثر تجنباً لترويج الشائعات، أو الوقوع في فخ خطاب الكراهية؟ ليس الأمر سهلاً، والضبط يكاد أن يكون مستحيلاً، خصوصاً وأن "السوشيال ميديا" عصية على التنظيم، والحل بمبادرات مجتمعة لتكريس تقاليد تحترم الحقيقة والآخر على وسائل التواصل الاجتماعي.
لن يسلم الإعلام من الانتقاد، وهو ضروري، والحملات الظالمة، وهي ضارّة، ولن يتغير حال وسائل التواصل الاجتماعي، أيضاً بين ليلة وضحاها، فالتغيير معركة مستمرة، والأهم أن تظل بوصلتنا متجهة للدفاع عن حرية الإعلام واستقلاليته ومهنيته، وحق الناس في التعبير بحرية عن آرائهم، فهذا ما يصنع الأردن الديمقراطي.
لا نريد الدفاع عن أحد، ولا تقديم المبررات، ولسنا قضاة ندين أو نقدم صكوك البراءة، لكننا نحرص على أن لا تتعرض حرية الإعلام للانتقاص والتقويض بشائعات ملفقة، ونسعى إلى التبصير بممارسات فضلى، تتبع بوسائل إعلام عالمية، وبمعايير دولية للإعلام، تحتكم لها الصحافة والمجتمع في آن واحد معاً.
أول ضحايا الحملات، ولا نعرف إن كانت منظمة أو مبرمجة، كانت جريدة الغد، بعد خبر قصير عن اتهامات لمسؤول بالتحرش الجنسي، من دون ذكر لاسم أو منصب، ومن دون التلميح أو التصريح بأي معلوماتٍ، يمكن أن يستدل بها عن هويته. وتبع ذلك إغلاق استوديوهات قناة اليرموك للبث المباشر، بحجة أنها غير مرخصة، مع أنها تبث منذ سنوات. وأُغلق المشهد على قصة برنامج "محطات مفروضة" الذي بثته قناة رؤيا، فاجتزئ مقطع بسيط منه، لا يتجاوز ثلاث دقائق، ووضع على "فيسبوك"، مع اتهامات بأنه يحمل ايحاءات جنسية، بل تجاوز الأمر ذلك بكثير إلى الدعوة إلى مقاطعة القناة، تحت شعارات متعددة أبرزها "أنا مسلم، أنا أقاطع رؤيا".
والحقيقة التي يجب أن تقال، بداية، إن الإعلاميين والصحافيين يخطئون فهم ليسوا "أنبياء"، وهذا مألوف، ويحدث في الأردن وكل دول العالم، وهناك معايير متعارف عليها دولياً للتصحيح والرد والإنصاف، تتبعها وسائل الإعلام، احتراماً لمصداقيتها وحفاظاً على صورتها وتقديرها للجمهور. وهذا الإجراء حين تلجأ إليه وسائل الإعلام، مهما كانت، لا يمنع من مساءلة الإعلام ومخاصمته واللجوء إلى القضاء أو مجالس الشكاوى، لتتحمل مسؤوليتها بكل شفافية عن الخطأ الذي ارتكبته.
وسائل التصحيح والرد والإنصاف بالتأكيد سلوك مهني وأخلاقي، وأحياناً قانوني، لكنه أبداً،
هذه التحولات التي فُرضت، وأصبحت حقيقة ماثلة، ليس ما حدث وواجهته وسائل الإعلام الأردنية. وعلى سبيل المثال، فإن خبر جريدة الغد بنيت عليه رواياتٌ لا تمت لمضمونه، وتسبب هذا التضليل، المتعمد وغير المتعمد، بإساءات لم تكن الجريدة طرفاً فيها، وهو ما اضطرها، صدورا عن واجب أخلاقي ومجتمعي وحماية لسمعة الآخرين، أن تقدم توضيحات شجاعة، كانت في غنى عنها، لو لم يجر توظيف الخبر في "معارك" سياسية.
وما حدث مع "الغد" تعرضت له قناة اليرموك، في حملة تحريض وتأييد لإغلاقها من بعضهم، ولأسباب سياسية مرتبطة بهويتها، من دون الالتفات إلى معايير ومعاهدات دولية، تضمن حق تملك وسائل الإعلام، من دون تضييق وتعجيز بشروط الترخيص، والرفض غير المبرر. وتكرر الأمر مع قناة رؤيا بحملة شعواء، نقلت الأمر من عرض برنامج ساخر، نتفق فيه مع مرصد "أكيد" بأن محتواه ليس ملائماً، إلى مطالبات بإغلاق القناة، والتحريض عليها وتوجيه الاتهامات الطائفية لمالكها.
أما وقد هدأت عاصفة الحملات في وسائل التواصل الاجتماعي، فإن وسائل الإعلام مطالبة بتعلم الدروس، والبدء بحملة مراجعة وتقييم لعملها، وعليها أن تتذكّر دائماً أن "أعين" الناس لم تعد غافلة عنها، وأن الخطأ الذي كان يمر في الماضي، من دون أن يلتفت له أحد، أصبح الآن وبفضل "فيسبوك" أو نقمته، وغيره يكبر ويوضع تحت المجهر، وليس هذا فقط، بل عرضة للتأويل، وبناء قصص لم تخطر ببال حتى الصحفيين الذين كتبوها، فماذا نحن فاعلون؟
من المهم أن تبدأ وسائل الإعلام في الأردن بورشات عمل، سواء داخلية في المؤسسات، أو على مستوى جمعي، وبالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني لتطوير "مدونات سلوك" تحترم معايير الصحافة المحترفة، وتراعي الحساسيات المجتمعية والتنوع، وتشرك الجمهور بصناعتها ومراجعتها، والأهم أن تعلن عنها لجمهورها بطرق بارزة، وتضع آليات للاحتكام لها، والاعتداد بها للإعلاميين والجمهور على حد سواء.
والوقت الآن مناسب وضروري جداً، لتبدأ وسائل الإعلام بتعيين رقيب الجمهور
إن فعلت وسائل الإعلام ذلك الآن، فإنها تتجنب ضغوطاً وتحديات كثيرة، وتترك لهذا الخبير المستقل أن يحاسبها بكل شفافية، وأن ينصف الجمهور وينصف وسيلة الإعلام من الافتراءات، وتساهم هذه الممارسة في صناعة فقه للأخلاقيات الصحفية، ربما تعامل مثل السوابق القضائية وتبنى عليها، وتقلل الضرر على صورة الإعلام، وقد تسهم في تقليص الشكايات ضدها في المحاكم.
ولا تكتمل هذه الحلقات المهنية من دون المبادرة العاجلة إلى تأسيس "مجلس الشكاوى"، على غرار تجارب دولية عديدة في العالم، وربما يدفع ما صادفناه من تحديات الحكومة، وتحديداً وزير الدولة لشؤون الإعلام، للإسراع في وضع هذا الأمر موضع التنفيذ، مع العلم أن الفكرة تناقش بجدية الآن، ويجري العمل لبلورة أحسن تصور ليعطي المجلس قوة دفع لوجوده. وشخصياً أعتقد أن ضمان استقلاليته، واختيار خبراء مرموقين لإدارته، ومباركة الجسم الإعلامي والالتفاف حوله، الخطوة الأساسية حتى يرى النور، ويكون فاعلاً ومؤثراً.
هذا من جانب الإعلام، فكيف يمكن الإسهام في تطوير محتوى وسائل التواصل الاجتماعي، ليصبح المغردون والنشطاء على صفحات "فيسبوك" أكثر صدقية، وأكثر تجنباً لترويج الشائعات، أو الوقوع في فخ خطاب الكراهية؟ ليس الأمر سهلاً، والضبط يكاد أن يكون مستحيلاً، خصوصاً وأن "السوشيال ميديا" عصية على التنظيم، والحل بمبادرات مجتمعة لتكريس تقاليد تحترم الحقيقة والآخر على وسائل التواصل الاجتماعي.
لن يسلم الإعلام من الانتقاد، وهو ضروري، والحملات الظالمة، وهي ضارّة، ولن يتغير حال وسائل التواصل الاجتماعي، أيضاً بين ليلة وضحاها، فالتغيير معركة مستمرة، والأهم أن تظل بوصلتنا متجهة للدفاع عن حرية الإعلام واستقلاليته ومهنيته، وحق الناس في التعبير بحرية عن آرائهم، فهذا ما يصنع الأردن الديمقراطي.