"أبو لمعة" في المصيدة

13 مايو 2018
+ الخط -
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه "العالم من عرف أن ما يعلم في جنب ما لا يعلم قليل؛ فعدَّ نفسه بذلك جاهلًا، فازداد بما عرف من ذلك في طلب العلم اجتهادًا، والجاهل من عدَّ نفسه بما جهل في العلم عالمًا، وكان برأيه مكتفيًا".

الخنفشار قصته أشهر من أن نتطرق إليها هنا، وهي تشير إلى من يتكلم بغير علم، ويدعي الإحاطة بكل جوانب الأمر. في كتاب أعلام الفكر الإسلامي الحديث وردت قصة من قصص الخنفشاريين؛ فقد ادعى أحمد أبو الفرج الدمنهوري أنه نال نصيبًا من اللغة لم يتوفر لغيره، وأنه لا يشذُّ عنه شيءٌ من مفردات العربية، وتمادى في دعواه وتبجَّح حتى تصدر للإجابة عن كلِّ سؤال؛ فتوالت عليه الأسئلة وخبط فيها خبط عشواء، سادرًا في غلوائه وغيِّه لا يلوي على شيء. ضاق به الأدباء فارتجلوا له ألفاظًا يسألونه عنها؛ فيخترع لهم معاني يجيب بها، وربما أحال تخرُّصًا على كتبٍ لغويةٍ بعينها. بلغ من تجاوزه أن بعضهم نظم له بيتًا وسأله عن معناه في جمع كبير: وبخرنقِ الأقيال عاثت فالتثتْ ورقاءُ تعترضُ الأكامَ بشيظمِ.


فقال الدمنهوري: نعم! هذا بيتٌ لعنترة ذكره صاحب الأغاني، وهو يصف حمامة، والخرنق شيء يشبه نسج العنكبوت وليس به، ويكون بين أغصان الأشجار؛ فيقول عنترة إن الحمامة عاثت بين الأقيال (أي الأشجار الكبيرة)؛ فاشتكت قدماها بالخرنق، وهمَّ بشرح النظم؛ فقطعته أصوات الضحك من جوانب المجلس.

هذا الموقف، وإن لمحت فيه جانبًا من الطرافة، إلا أنه يقطر أسى ويندى له جبين العالم الحق! وتفوح منه شهوة المغالبة والاستظهار بالباطل. العلم أكبر من أن يحاط به، ولا بأس أن يقول المرء لا أعلم، والمكابرة في هذا السبيل تتساوى مع الكذب؛ فكما أن حبل الكذب قصير فكذلك ادعاء العلم، وانكشاف أمر الشخص المدعي ما ليس فيه مسألة وقت، وعندها سيهوي على أم رأسه ولن يقف بعدها.

العالم لا يتحرج مطلقًا أن يقول لا أعرف هذه المسألة، ويسأل من يجد عنده الجواب، ولا يشغل باله بـ"البرستيج" و"الإيغو"؛ فالعلم عنده أهم وأعلى قيمة. العالم يعتذر إن ذكر معلومة غير صحيحة، ولا يتهالك في الدفاع عن معلومة خاطئة.

يقول أبو قلابة: "مَثَلُ العلماء الأرض مثل النجوم في السماء، من تركها ضلَّ ومن غابت عنه تحيَّر"، ولن تجد عالمًا ينتصر لنفسه على حساب الحق، أو يتكلم بغير علم لمجرد إثبات وجوده. مع أن الأمر ليس صعبًا على اللسان، لكن الاعتراف بعدم العلم صعب على نفس الصغار. ولأن الحق يظهر، وإن حُجِب طويلًا؛ فإن على المرء أن يكون أمينًا مع نفسه قبل الناس، وأن يضع نصب عينيه لحظة سطوع شمس الحقيقة؛ فعندها ربما يود الذين كذبوا أن تسيخ بهم الأرض. في هذه اللحظة يقع أبو لمعة في المصيدة! فلا يجد مفرًا له ويفقد ماء وجهه، هذا إن كان في وجهه ماء من الأصل.

نعيش في عصر تكنولوجيا المعلومات، ومع أنه من اليسير أن نُخدع وبسرعة، لكن في الوقت ذاته من يحرص على الوصول إلى تفاصيل معلومة ما لن يعدم وسيلة؛ فحبل الخداع والكذب قصير.

لك أن تتخيّل هذا الموقف المحرج في بلاط هارون الرشيد، فقد دخل عليه سلم الخاسر مادحًا، والناس تطرب لشعره؛ فلما بلغ قوله: (نزلت نجومُ الليل فوق رؤوسهم ولكل قومٍ كوكبٌ وهَّاج).. استوقفه جعفر بن يحيى البرمكي وقال: هذا شعر بشار بن برد يقوله في رجلٍ من تميم؛ فأقرّ بذلك، وسقط من عين الخليفة.
دلالات