التنكر للتجديد والمجدّدين ليس استثناءً بل هو القاعدة؛ هذا هو الانطباع الأول الذي يخرج به قارئ كتاب كمال نشأت "أبو شادي وحركة التجديد في الشعر العربي الحديث"، ليس لأن هذا الشاعر المجدِّد في العقد الأول من القرن العشرين واجهته عاصفة هائجة من تقليديين وراتعين في عوالم التقليد ألجأته إلى الهجرة بعيداً عن وطنه عام 1946 حتى رحيله في نيويورك فقط، بل لأن جيله ذاته تنكّر له وطمس آثاره، كما يقول مؤلف هذا الكتاب/ الرسالة الجامعية عام 1965، فلم يعد لأفكاره المتحررة من سلاسل الماضي سوى أصداء لا يعرف من يسمعها مصدرها، بل واتخذها تابعون، وتابعو التابعين، علامات طريق نسبوها إلى أنفسهم أو لمن كان قريباً منهم.
أحمد زكي أبو شادي (1892 - 1955) يبدو الآن نائياً عن حاضر شعري اكتظ بمئات وربما بآلاف الشعراء والنقّاد والمدارس والاتجاهات، ولكن العودة إليه، وبقلم شاعر قريب من توجهاته هو كمال نشأت (1923 - 2010)، تعيده إلى الحياة مجدداً، وتُرمم جزءاً من ذاكرة ثقافة اعتادت في مسار القرن العشرين على إلقاء مجدديها الرواد أيا كانت مواطنهم وراءها والبدء من الصفر مجدداً.
جاء في المقدمة أن موضوع الكتاب هو "حياة شاعر معاصر لعب دوراً هاماً في تاريخ الشعر العربي الحديث، وهو على ريادته وكبير أثره لم يجد دارساً يُعنى به، فظل دوره القيادي بعيداً عن دائرة الضوء الذي سُلّط على غيره من زملائه المجددين، وإن كان هو أسبق من بعضهم تجديداً وأعمق أثراً في جيل كامل من الشعراء". هناك دراسات بالطبع كُتبت عنه إلا أنها كما يرى المؤلف مجموعة مقالات وأبحاث قصيرة كتبها أصدقاء أبي شادي على سبيل المجاملة، ومنها دراسة إسماعيل أحمد أدهم المعنونة "أبو شادي الشاعر"، البعيدة عن الموضوعية كما يقول. وهناك فصل كتبه عبد العزيز الدسوقي (1925- 2015) في كتابه "جماعة أبولو وأثرها في الشعر الحديث" عن أبي شادي.
ومع إقراره بأهمية كتاب "رائد الشعر الحديث" لمحمد عبد المنعم خفاجي (1915 - 2006)، وجمعه للكثير من مقالات وآراء وشعر ورسائل أبي شادي، إلا أنه لم يكن بحثاً بالمعنى المفهوم لهذه الكلمة. وهناك كتاب لروكس بن زائد العزيزي (1903 - 2004) أيضاً، إلا أنه لا يضيف جديداً. ويخلص المؤلف إلى أن كتابه هو أول دراسة موضوعية عن أبي شادي تُظهر ما له وما عليه، إلى جانب دراسة الحركة التجديدية في الشعر العربي الحديث عامة. ويعبّر عن سعادته لكونه ببحثه هذا رَفَعَ الغُبن عن شاعر يكاد يُنكره جيله كلّه، وصحّح كثيراً من الآراء الخاطئة السائدة في الأوساط الأدبية في ما يمسّ حركة التجديد، كالحديث الشائع عن سَبْق العقاد والمازني ودورهما في هذه الحركة.
ينقسم الكتاب إلى ستة أبواب فيها من الإسهاب والتكرار الكثير. حمل الأول عنوان "عصر أبي شادي"، ويتناول أجواء ما يسميها المؤلف "صحوة مصر" بمجيء الحملة الفرنسية، وما لحقها من اتصال بالغرب أيام محمد علي، فحركة الترجمة وإنشاء المدارس وإصدار الجرائد وإعادة نشر التراث.. إلخ، وصولاً إلى المعارك بين المُجدّدين والمحافظين، والوعي القومي ويقظة الأدب، وما أطلق عليه تعبير "مصر تبحث عن نفسها".
الباب الثاني يسهب فيه المؤلف في عرض حياة الشاعر منذ مولده، فأسفاره وأثر نشأته في شخصيته، واطلاعه الباكر على الأدبين العربي والإنكليزي، واعترافه بأستاذية خليل مطران (1872 - 1949)، المحرّك الأول للتجديد الشعري انطلاقاً من محل إقامته في مصر، ثم نزاعه مع شوقي وحافظ، وسفره إلى إنكلترا طلباً للعلم بين العامين 1912 و1922. وسيمنح الباحث قيمة عليا لعلاقة الشاعر بالأدب الإنكليزي، ويجعلها مبعث نزعته التجديدية في الشعر والفكر النقدي، و"العاصم الأول لشخصيته الفنية من الفناء في التقليد والضياع"، كما يقول المؤلف في الباب الثالث المكرّس لشاعريته، ولسنوات عودته إلى مصر التي قدم فيها، مع مطران وعبد الرحمن شكري، نماذج شعرية رائدة.
في عشرينيات ذلك القرن، كانت وجهة النظر الجديدة ممثلة في قلمَي العقاد والمازني، ومع إصدارهما لكتاب "الديوان" وما حمله من آراء "نقدية"، دارت معارك بين هؤلاء الشبّان وبين المحافظين، ودخل أبوشادي المعركة مسلَّحاً باتجاه التجديد الذي بكّر في التعرف عليه، واتضحت من خلال مقالاته ودراساته ودواوينه التي نشرها قبل هجرته إلى أميركا معالم مذهبه الشعري الداعي إلى الطلاقة التعبيرية والاعتماد على الطّبْع، وكراهية التصنّع، والتأثر بالبيئة المحلية لا بأجواء الكتب التراثية.
على أن المؤلف لم يغفل جانباً مهماً في هذه النزعة التجديدية التي تبلورت في آراء أبي شادي النقدية بقوة أكبر مما ظهرت في نتاجه الشعري الذي تميّز كما يقول بعدة عيوب، أبرزها النزعة الارتجالية وقلق القافية والغموض والقفز من فكرة إلى أخرى من دون روابط بينها. ولخّص هذا بالقول إن هذا الشاعر "تميّز بعمق الثقافة واتساعها وضعف التعبير الشعري". ويلاحظ عليه تفكيره بالإنكليزية، أي أن اللفظ الإنكليزي كان يقود تفكيره، فيقدّم الصفة على الموصوف على سبيل المثال.
ولكن كل هذا لم يمنعه من إعطاء أهمية لالتفات الشاعر إلى موضوعات لم تكن تخطر ببال معاصريه، وتأثير الثقافة الإنكليزية الذي حماه منذ بداية نشأته الأدبية من التقليد السائد حتى لدى من كانوا يُعتبرون من كبار الشعراء مثل حافظ وشوقي وغيرهما. ويسجل له أنه منذ العام 1910 سبق بيئته وزمنه بديوانه "أنداء الفجر" وقطرة من يراع" وما فيهما من تجارب شعرية جديدة، وصياغة تفرّد بها حتى بين المجدّدين من أمثال مطران وشكري.
في الباب الرابع، يطل كمال نشأت على حركة التجديد في الشعر المصري المعاصر بين العامين 1900 و1935، على أرضية المفاهيم التقليدية التي "حددت الدائرة التي على الشاعر ألا يتعداها"، وخاصة حصر جَمال الشعر في صياغته المتواصلة منذ القدم حتى عصرنا الحديث. فحتى مع النقلة نحو العصرية - كما يُقال - التي أحدثتها حركة الإحياء الشعري مع البارودي وشوقي وحافظ ومحمد توفيق البكري وأمثالهم، لم تفلت هذه الحركة من التأثر بالمحفوظ من نماذج الشعر العربي القديم.
أول ركيزة لحركة التجديد الشعرية كانت كما يرى المؤلف ديوان خليل مطران في عام 1908. صحيح أن جماعة "الديوان" كانت نقداً تطبيقياً مستجداً، "إلا أنها لم تستطع التخلّص من أسر الشعر القديم على الرغم من اطلاعها على فنون الأدب الأوروبي، فهي تستعير نفس الألوان الصحراوية من تشبيه أو استعارة أو صورة بدوية، وهي أشياء كان أصحاب هذه الجماعة يعيبونها على الشعراء الذين نقدوهم".
في الفصل الخامس، يعيد المؤلف التأكيد على روح التجديد التي تمّيز بها أبو شادي مبكراً. ويُسهب في تعداد جوانبها مثل هجومه على الأسلوب الخبري الذي تابعه معاصروه من الشعراء، ومطالبته بالابتداع في الموضوع والأسلوب، والإلحاح على ظهور شخصية الشاعر في شعره، وهو يترجم نصوصاً إنكليزية ضارباً بها المثل على التصوير والطلاقة الفنية، داعياً إلى الصدق الشعوري ورافضاً التصنع والمحاكاة، ومصرّاً على محاربة التقليد والمقلدين حتى القول: "خير للشاعر أن يوصَم بألف وصمة غاشمة من أن يكون أسير الروح عبداً للتقاليد أو خادعاً لنفسه ولغيره".
ويختم المؤلف هذا الفصل بمساهمة الشاعر في الشعر المُرْسَل والحُر، وفي محاولات تحطيم قيد القافية، بالإضافة إلى ريادته مع عبد الرحمن شكري في تقديم نماذج الشعر الرمزي، والشعر القصصي والخروج على انحصار الشعراء في أبواب الشعر التقليدية، والانفتاح على موضوعات الحياة اليومية.
وأخيراً يُخصص المؤلف الفصل السادس لأثر أبي شادي في الحركة الشعرية عبر تأسيس "جمعية أبولو" وإصدار مجلتها بين العامين 1932 و1934. ولعل أفضل تلخيص لفكر هذه الجمعية هو ما كتبه أبو القاسم الشابي، أحد شعراء "أبولو"، في تقديمه لديوان أبي شادي "الينبوع"، وهو يميز بين المدرسة الشعرية القديمة والمدرسة الشعرية الحديثة (أي مدرسة المجدّدين التي تقف في المقدمة منها مدرسة أبولو).
كتب الشابي: "أما المدرسة الحديثة.. فتدعو إلى أن يجدّد الشاعر ما شاء في أسلوبه وطريقته في التفكير والعاطفة والخيال، وأن يستلهم ما شاء من كل هذا التراث المعنوي العظيم الذي يشمل ما ادخرته الإنسانية من فن وفلسفة ورأي ودين، لا فرق في ذلك بين ما كان منه عربياً أو أجنبياً، وبالجملة فهي تدعو إلى حرية الفن من كل قيد يمنعه من الحركة والحياة... وهي في كل ذلك لا تكاد تتفق مع المدرسة القديمة إلا في احترام اللغة وقواعدها، بل إن فريقاً من متطرفي المدرسة الحديثة لا يعدل بحرية الفن شيئاً، ولا يحفل في سبيل ذلك حتى بقواعد اللغة وأصولها".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كمال نشأت
يرتبط اسمُ الشاعر والناقد المصري كمال نشأت، الذي يُعدّ أحدَ روّاد حركة الشعر الحر في مصر، بـ"رابطة النهر الخالد" التي أسّسها مع محمد الفيتوري وفوزي العنتيل في الخمسينيات. من أعماله الشعرية: "رياح وشموع"، و"أنشودة الطريق"، و"ماذا يقول الربيع"، و"كلمات مهاجرة"، و"النجوم متعبة والضحى في انتظار". ومن كتبه في النقد الأدبي: "أبو شادي وحركة التجديد"، و"شعر المهجر"، و"مصطفى صادق الرافعي".