بين توثيقٍ تقليدي (قليل الحضور) واشتغالٍ بصري (يغلب على مناخ العمل)، ينسج السوريّ فراس فيّاض (1984) ـ في "آخر الرجال في حلب" (2017) ـ معالم حكايةٍ، تعكس أنماط عيشٍ في جحيم الخراب المتنوّع، الذي يُصيب أرواحًا ونفوسًا وأجسادًا، والذي يطاول أبنية وأزقّة ومساحاتٍ. توثيق تقليدي يرتكز على مرافقة متطوّعين في الدفاع المدني السوري، والتقاط أحوالهم المختلفة في يوميات عملٍ يواجه الموت، وفي حياةٍ مرتبكة وغير مكتملة، وفي انفعالاتٍ مكسورة. واشتغال بصري يصنع من أشكال القتل والتدمير صُوَرًا تتناسق جمالياتها مع إصرارٍ على عيشٍ يتفوّق على الجحيم، ويحيل البشاعة (المفروضة على المدينة وناسها) إلى متتاليات تروي وقائع، وتبوح بمكنوناتٍ ذاتية، وتوثّق معنى آخر للحياة.
التوثيق التقليدي غير منتقصٍ من مكانة السينما في "آخر الرجال في حلب"، المُرشَّح رسميًّا لجائزة "أوسكار" أفضل فيلم وثائقي طويل (تُعلن النتائج في 4 مارس/ آذار 2018). والمكانة واضحة: لقطات وحركة كاميرا وإضاءة وكادرات ومونتاج، فإذا بهذه اللغة، التي تبدو عادية (لوهلةٍ أولى)، تذهب إلى المدى الأوسع للصورة ومضمونها، فتحمي الأولى (الصورة) من كلِّ بهتانٍ أو تسطيحٍ أو لا معنى، وتجعل الثاني (المضمون) أقدر على البوح، بسلاسةٍ تكشف عمقًا في أسئلة الذات ومشاغلها، وتُعرّي روحًا في ارتباكاتها والتزاماتها وهواجسها.
فالمشاهد السينمائية، وإنْ تكن قليلة، تغلب قسوةَ الشقاء والفرح الجميل والمكبوت باقتناص لحظاتِ راحةٍ معطّلة، وتحيل القصص المتناثرة هنا وهناك ـ مع جثثٍ وأنقاضٍ وغبارٍ ودمٍ، مُضافة إليها أنوار شمسٍ تشي بنبضٍ مطلوبٍ، وضحكاتٍ تعلو فوق هدير طائرات حربية وصدى قصف مدفعي ـ إلى متتالياتٍ تسرد دقائق روتينٍ يوميّ في مدينةٍ، يُراد لها أن تُحاصَر بذلّ ومهانة، فتنتفض لكرامةٍ يُتقن فراس فيّاض التقاط نبضها في مفاصل عديدة من حكايته.
وحكاية السينمائيّ متكاملة وحكاية خالد ومحمود، المنخرِطَين (وزملاء عديدين لهما) في أعمالٍ يومية لإغاثٍة وإنقاذ، في فريق معروفٍ باسمٍ يتردّد في أنحاء مختلفة من العالم: "الخوذ البيضاء". الحكاية الأولى تُختزَل بمرافقة الحكاية الثانية، كما بسرد وقائعها واضطراباتها ومفاصلها ومناخاتها؛ وبسعيٍّ إلى تمتين نصّها الإنسانيّ في شهادة سينمائية، تمزج صُوَر الواقع بمتخيّل الابتكار الفني للقطات عديدة، وتروي فصول المواجهة المدنية لوحشية نظامٍ متحكّم بالناس ومصائرهم. والحكاية الثانية مفتوحةٌ على أسئلةٍ تتجاوز الإنسانيّ إلى الأبعد منه: فعل عيشٍ في دائرة موت.
وهذا غير منفصل عن إشاعةِ مناخٍ آخر، وإنْ بمواربة واحتيال سينمائيين: إظهار وحشية نظامٍ، بمرافقة شباب "الخوذ البيضاء" في أعمال الإغاثة والإنقاذ، كما في رغباتهم البسيطة (تشييد حوض سمك صغير، رقص وغناء، حيّز للزراعة، ألعاب خاصّة بالأطفال في حديقة متواضعة، نزهة في ضوء شمسٍ لحظة هدنة مخيفة، إلخ)؛ وتبيانٌ غير مباشر لوقائع دمار وقتل وتهجير، وهذا كلّه يؤدّي إلى فضحٍ مبطّن لتغاضٍ دوليّ، وتفكّك قاسٍ لمعارضات مشتّتة، بعضها مُصابٌ بوحشية النظام نفسه.
حكايتان متكاملتان، إحداهما مع الأخرى، في مشهديات بصرية ملتَقَطة بكاميرا محمولة على الكتف (مدير التصوير: فادي الحلبي، تصوير: ثائر محمد ومجاهد أبو الجود)، تُلاحق أفراد "الخوذ البيضاء" في يومياتهم، وتكاد تختفي بهم ومعهم، فتُصبح مرايا وعيوناً في آن واحد: مرايا تعكس وقائع، وعيون تلتقط وتنقل وتُشارك في تلك المتاهة القائمة بين عيشٍ في سواد الموت، وعيشٍ على حافة الابتسامة، وعيشٍ على ضفاف المواجهة، وعيشٍ على أملِ خلاصٍ، وعيشٍ على صُوَر أشلاء وأنقاض ورغبات في خروجٍ آمنٍ، لكنه موؤود.
وإذْ تتقلّص مساحة الحكاية الأولى كي يُتاح للحكاية الثانية أن تتمدّد وتتّسع، فتختزل قولاً (سرد وقائع) وبوحاً (أسئلة المتطوّعين في السياسة والحرب والحرية والخلاص والقناعات والالتزام)؛ فإن الحكاية الثانية تنفلش في الاتجاهات المختلفة للنصّ الوثائقي، كي تتمكّن من إيجاد معادلات بصرية للحكاية الأولى. وهذا واضحٌ في اختيار فراس فيّاض الحكاية الثانية موضوعاً لفيلمه، وفي مقاربته السينمائية ذاك العالم المحيط به، كأنه ـ بسرده يوميات المتطوّعين المدنيين، وأمزجتهم وأهوائهم وكوابيسهم ومشاهداتهم وانفعالاتهم ورغباتهم ـ يقول شيئاً منه أيضاً.
واللغة سينمائية في مكامن مختلفة للنصّ البصريّ: إدخال لقطات لسوادِ ليلٍ محكومٍ بإضاءة قنابل تُحيل بعض الأمان إلى قلقٍ إضافيّ؛ ومزج أعمال الإغاثة والإنقاذ بلحظات استراحة مشوبة بارتباك السكون إلى نومٍ وهدوء قليلين؛ ثنائية الحسّ الإنساني، بين عملٍ تطوّعي يُصاب بخيبات (عجزٌ عن إنقاذ أرواح، استمرارٌ لا يُطاق لقصفٍ وحربٍ وقتلٍ وموتٍ وتدمير، تعطيلُ فرحٍ مطلوبٍ، إلخ.)، وعيشٍ عائليّ (خالد وابنتاه) يعاني انفصالاً بين أبٍ وأفراد عائلته. وهذا مصنوعٌ بتوليفٍ (ستين يوهانسن، المُشارك في الإخراج أيضاً، وميشال باور وفراس فيّاض) يُحدِّد سياق السرد وأطر الحكايات وجماليات الصورة المنبثقة من ألمٍ وتمزّق ودمعٍ.
فالمشاهد السينمائية، وإنْ تكن قليلة، تغلب قسوةَ الشقاء والفرح الجميل والمكبوت باقتناص لحظاتِ راحةٍ معطّلة، وتحيل القصص المتناثرة هنا وهناك ـ مع جثثٍ وأنقاضٍ وغبارٍ ودمٍ، مُضافة إليها أنوار شمسٍ تشي بنبضٍ مطلوبٍ، وضحكاتٍ تعلو فوق هدير طائرات حربية وصدى قصف مدفعي ـ إلى متتالياتٍ تسرد دقائق روتينٍ يوميّ في مدينةٍ، يُراد لها أن تُحاصَر بذلّ ومهانة، فتنتفض لكرامةٍ يُتقن فراس فيّاض التقاط نبضها في مفاصل عديدة من حكايته.
وحكاية السينمائيّ متكاملة وحكاية خالد ومحمود، المنخرِطَين (وزملاء عديدين لهما) في أعمالٍ يومية لإغاثٍة وإنقاذ، في فريق معروفٍ باسمٍ يتردّد في أنحاء مختلفة من العالم: "الخوذ البيضاء". الحكاية الأولى تُختزَل بمرافقة الحكاية الثانية، كما بسرد وقائعها واضطراباتها ومفاصلها ومناخاتها؛ وبسعيٍّ إلى تمتين نصّها الإنسانيّ في شهادة سينمائية، تمزج صُوَر الواقع بمتخيّل الابتكار الفني للقطات عديدة، وتروي فصول المواجهة المدنية لوحشية نظامٍ متحكّم بالناس ومصائرهم. والحكاية الثانية مفتوحةٌ على أسئلةٍ تتجاوز الإنسانيّ إلى الأبعد منه: فعل عيشٍ في دائرة موت.
وهذا غير منفصل عن إشاعةِ مناخٍ آخر، وإنْ بمواربة واحتيال سينمائيين: إظهار وحشية نظامٍ، بمرافقة شباب "الخوذ البيضاء" في أعمال الإغاثة والإنقاذ، كما في رغباتهم البسيطة (تشييد حوض سمك صغير، رقص وغناء، حيّز للزراعة، ألعاب خاصّة بالأطفال في حديقة متواضعة، نزهة في ضوء شمسٍ لحظة هدنة مخيفة، إلخ)؛ وتبيانٌ غير مباشر لوقائع دمار وقتل وتهجير، وهذا كلّه يؤدّي إلى فضحٍ مبطّن لتغاضٍ دوليّ، وتفكّك قاسٍ لمعارضات مشتّتة، بعضها مُصابٌ بوحشية النظام نفسه.
حكايتان متكاملتان، إحداهما مع الأخرى، في مشهديات بصرية ملتَقَطة بكاميرا محمولة على الكتف (مدير التصوير: فادي الحلبي، تصوير: ثائر محمد ومجاهد أبو الجود)، تُلاحق أفراد "الخوذ البيضاء" في يومياتهم، وتكاد تختفي بهم ومعهم، فتُصبح مرايا وعيوناً في آن واحد: مرايا تعكس وقائع، وعيون تلتقط وتنقل وتُشارك في تلك المتاهة القائمة بين عيشٍ في سواد الموت، وعيشٍ على حافة الابتسامة، وعيشٍ على ضفاف المواجهة، وعيشٍ على أملِ خلاصٍ، وعيشٍ على صُوَر أشلاء وأنقاض ورغبات في خروجٍ آمنٍ، لكنه موؤود.
وإذْ تتقلّص مساحة الحكاية الأولى كي يُتاح للحكاية الثانية أن تتمدّد وتتّسع، فتختزل قولاً (سرد وقائع) وبوحاً (أسئلة المتطوّعين في السياسة والحرب والحرية والخلاص والقناعات والالتزام)؛ فإن الحكاية الثانية تنفلش في الاتجاهات المختلفة للنصّ الوثائقي، كي تتمكّن من إيجاد معادلات بصرية للحكاية الأولى. وهذا واضحٌ في اختيار فراس فيّاض الحكاية الثانية موضوعاً لفيلمه، وفي مقاربته السينمائية ذاك العالم المحيط به، كأنه ـ بسرده يوميات المتطوّعين المدنيين، وأمزجتهم وأهوائهم وكوابيسهم ومشاهداتهم وانفعالاتهم ورغباتهم ـ يقول شيئاً منه أيضاً.
واللغة سينمائية في مكامن مختلفة للنصّ البصريّ: إدخال لقطات لسوادِ ليلٍ محكومٍ بإضاءة قنابل تُحيل بعض الأمان إلى قلقٍ إضافيّ؛ ومزج أعمال الإغاثة والإنقاذ بلحظات استراحة مشوبة بارتباك السكون إلى نومٍ وهدوء قليلين؛ ثنائية الحسّ الإنساني، بين عملٍ تطوّعي يُصاب بخيبات (عجزٌ عن إنقاذ أرواح، استمرارٌ لا يُطاق لقصفٍ وحربٍ وقتلٍ وموتٍ وتدمير، تعطيلُ فرحٍ مطلوبٍ، إلخ.)، وعيشٍ عائليّ (خالد وابنتاه) يعاني انفصالاً بين أبٍ وأفراد عائلته. وهذا مصنوعٌ بتوليفٍ (ستين يوهانسن، المُشارك في الإخراج أيضاً، وميشال باور وفراس فيّاض) يُحدِّد سياق السرد وأطر الحكايات وجماليات الصورة المنبثقة من ألمٍ وتمزّق ودمعٍ.