فنجان قهوة عند الجارة

17 اغسطس 2014
+ الخط -

صمّمت السيدة المتعبة على مقاومة أعراض الكآبة الحادة التي تمكنت من روحها في السنوات الأخيرة، فأحالتها إلى ما يشبه الخرقة البالية، عاجزة عن التفكير المنطقي السليم، مكبّلة بطاقةٍ سلبية من التردّد والخوف والعجز عن القيام بأي مبادرة إنسانية تنقلها إلى دائرة التفاعل مع ما يدور حولها من مظاهر حياة، تصنّفها عادة تفاهات لا تفضي إلى فرح حقيقي.
وفي سبيل ذلك، قررت أن تهجر الصوفا المقابلة للتلفزيون، حيث اكتشفت أنها تقضي معظم أوقاتها في متابعاتٍ بائسةٍ لأفلام تتكرّر على مدار الأسبوع. تتخلّلها نشراتٌ إخباريةٌ على رأس الساعة، غالباً ما تبعث على البؤس الشديد. فكّرت أن الوقت قد حان لمواجهة أحزانها كامرأة شجاعةٍ، لا تخشى من الاعتراف بنقاط ضعفها الكثيرة.
اعترفت لنفسها أن أبرز هذه النقاط هي تلك الحساسية الشديدة التي تحيلها إلى كائن هشّ غير قادر على مواجهة أبسط المشكلات، فتلوذ بالصمت طويلاً، بانتظار انقشاع سحب سوداء تبيّن أنها غير قابلة للرحيل بسهولة، قاطنةً في وحدتها بعدما أحكمت بناء أسوار عزلتها التي تحجبها عن الآخرين.
طرقت باب الشقة المقابلة، في خطوة غير مسبوقة أثارت استغراب الجارة التي تقتصر العلاقة معها، منذ إقامتها في البناء نفسه، على تحياتٍ مقتضبة، وحديثٍ عابر عن حالة الطقس، وتبادل الشكوى عن كسل وتقاعس بواب العمارة الوافد، غير الحاصل على تصريح من وزارة العمل، بسبب تعقيدات اختصرها ذات مرة قائلاً: الحياة صعبة يا هانم! ولأن الأجرة التي يتقاضاها زهيدة جداً، فهو يقضي ساعات عمله المفترضة في تنظيف سيارات أهل الحي.
استقبلتها الجارة بارتياب، لم تتخلّص منه تماماً، حتى بعدما أكدت لها أن الزيارة وديّة تماماً، وهي ليست أكثر من محاولة بريئةٍ لكسر الغربة والجمود في علاقتهما، ولا سيما أنهما متقاربتان، من حيث العمر والظروف الاجتماعية. كان ذلك بعدما عبّرت عن حنينها إلى أيام زمان، حين كان الجيران مثل الأهل، بل أكثر من حيث الانفتاح والألفة.
احتست فنجان القهوة على مهل أثار ضيق الجارة المتوجّسة، حاولت الضيفة الطارئة، في الأثناء، جاهدةً، فتح مواضيع خفيفة، تبعث على البهجة، لا تمتّ بصلة لشؤون العمارة، من تعطُّل المصعد إلى تأخّر فواتير. لم تنجح في المحاولة، لأن الجارة، التي اتّضح أنها متابعة نهمة للمواقع الإلكترونية، سردت عليها حكايات عن رجلٍ قتل زوجته وولديه، تحت سَورة غضبٍ مفاجئة، وآخر اغتصب سيدة سبعينية قبل قتلها، ومعلّم مدرسة اقتلع عين تلميذه في سياق تأديبه.
سردت تلك الحكايات المروّعة، مع تأكيدها، بين حين وآخر، أن الدنيا آخر وقت. قاطعتها السيدة المتعبة، متسائلة بعصبية: ماذا عنكِ أنت؟ كيف هي حياتك؟ ماذا تحسّين الآن؟ ما هي أوجاعك الشخصية؟ ارتبكت الجارة، ودارت دمعةً أوشكت أن تسقط من عينها عنوة، حاولت إخفاء حيرتها، إزاء اقتراح الصداقة المفاجئ.
غابت قليلاً في المطبخ، وعادت تحمل طبقاً يضم أكواماً من عروق الملوخية. فتحت التلفزيون، فظهر الممثل السوري سلوم حداد، الذي يتقن أدوار الشر. هتفت بحماسة: "في الحلقة الماضية، اكتشفت زوجته خيانته، غير أنها لم تتمكن من فعل شيء، لأنه مصرٌّ على الزواج من حبيبته، وقد خيّرها بين الطلاق والقبول بالضرّة على مرارتها. المسكينة بكت كثيراً، وتوسلت إليه أن يعقل، وأن لا يخرب بيته بسبب نزوة عابرة، وعلى الرغم من أنه اعترف بأنه لا يحبها، وأنه مضطر للحياة معها، بسبب الأولاد فقط، لكن الغبيّة ما زالت تحبه، على الرغم من كل شيء".
وضعت الطبق على الطاولة، وانهمكت المرأتان في تقطيع أوراق الملوخية، التي يفضّلها أولاد الجارة ناعمةً جداً، بينما ظلت أحزانهما حبيسةً في الصدور المثقلة بالأسرار.

دلالات
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.