13 نوفمبر 2024
عُمان وإشكالية التحديث في رؤية 2040
استلم سلطان عُمان الراحل، قابوس بن سعيد، الحكم عام 1970، فأصبح بذلك حاكماً على دولةٍ تتنازعها الصراعات؛ فهناك جبهة ظفار الاشتراكية في الجنوب والحالمة بتحرير عُمان وكل الخليج، وهناك المؤيدون لعودة الإمامة، وأمّا السلطنة فيسيطر عليها البريطانيون بشكل كامل. لم تكن عقلية السلطان سعيد بن تيمور، الذي حكم من 1932 وحتى 1970، في الحكم تتجاوز القرون الوسطى، حيث اكتفى بحكم مسقط وإدارة شؤون دويلةٍ كانت إمبراطوريةً ذات يوم. لأسبابٍ كثيرة، دعمت بريطانيا السلطان قابوس، وقد ظلّ في الحكم كوالده خمسين عاماً، حتى توفي في 10 يناير/ كانون الثاني الحالي. هو إذاً، مؤسس سلطنة عُمان الحديثة، وأغلبية السلطات ظلّت بيديه إلى أن بدأ الربيع العربي، وتظاهر العمانيون حينها، ورفعوا المطالب الاقتصادية والسياسية، في العامين 2011 و2012، وجدّدوا الأمر 2017. وإنْ لم تتوسع احتجاجاتهم كثيراً، ولم يرفعوا شعار إسقاط النظام، فإن تظاهراتهم تلك فتحت عيني السلطان على مشكلات دولته، وبسببها، أحدث تغييراتٍ هامشيةً في إدارة شؤون الحكم، ورفع الحد الأدنى للأجور، وأقال بعض الوزراء.
حين استلم الحكم، كانت جبهة ظفار، تخوض حربها ضده منذ 1965، واستمرّت إلى 1975، وتأسّست حركة سياسية قبل ذلك، وكانت تهدف إلى النهوض ببلدٍ تنعدم فيه الخدمات، ويسوده الجهل والعبودية وتتحكّم فيه بريطانيا، وقد تلقت دعماً من الاتحاد السوفيتي عبر اليمن الجنوبي، وشارك في ثورتها مثقفون عرب. المهم إن بريطانيا كانت متخوّفة من حركة ظفار، وعدّتها امتداداً للحركة اليسارية في اليمن الجنوبي، وتتلقى منه الدعم، وبالتالي كان لا بد من حاكمٍ جديد، قادر عل تفهم العالم الحديث وإدارة الحرب بشكل أفضل. بمجرد إزاحته أباه، تلقى قابوس دعماً بريطانياً أكبر وطلب دعم الشاه في إيران، واستطاع هزيمة الحركة الثورية. المهم أنه استقطب كثيرين من قادة ثورة ظفار إلى حكمه، وبذلك أنهى أكبر تهديد واجهه.
وضع كامل السلطات بين يديه، ولكنه كان عاجزاً بشكلٍ كليٍّ؛ فالبلاد هشّة، وليس فيها أية
مؤسسات لدولةٍ عصرية. إذاً، كان السلطان الضعيف في وضعٍ لا يُحسد عليه، فهو حين ينظر إلى الماضي يرى نفسه سليل إمبراطوريةٍ امتدّت من زنجبار إلى باكستان، وفرضت سيطرةً كبيرةً على بحر العرب، وأجزاء كبيرة من المحيط الهندي، وكان لها دور كبيرٌ في التجارة والسيطرة على البحار، وبلده ذو حضارة تمتد خمسة آلاف سنة خلت. وأمّا الحاضر، فتتحكّم فيه بريطانيا. آلمه كذلك استقلال إمارات ساحل عُمان، والتي أصبحت دولة الإمارات المتحدة. الأسوأ كان أن كمية النفط والغاز في البلاد ليست بما يقارن بتلك الإمارات. ضمن هذا الوضع، كان على السلطان أن يشكل دولته، وجيشه، ويضبط مطامح الأسرة البوسعيدية ورغبتها في الحكم، كما حال الإمارات مثلاً. كان لدى السلطان قابوس رؤية مختلفة لشؤون الحكم عن أنظمة الخليج، حيث أبعد العائلة عن شؤون الجيش كليّا، وأدخل العمانيين واستبدل بهم البريطانيين والجنود البلوش بالتدريج. وباعتباره واجه حركة مسلحة، اهتم كثيراً بتحديث الجيش وتطويره، وكذلك لأن الإمارات والسعودية تنافسانه على مناطق أخرى في سلطنته، وتسعيان إلى الوصول إلى مضيق هرمز، أو محافظة المهرة اليمنية، وذلك كله لضبط هذه السلطنة، وتهميش دورها في الخليج، سيما أنها ظلّت حذرةً من السعودية، ولاحقاً من الإمارات التي كانت ضمن أراضيها. الموارد الشحيحة لا تساعد السلطان، وأعباء التخلف كبيرة، وهناك أمجاد السلطنة والسلطة والرغبة في الرفاهية، وهي قضايا تخصّ كل النظام الذي أسّسه. وبالتالي نهض بالتعليم وحَدّثَ الجيش واستدعى استثمارات خارجية كبيرة، ولكنه تشدّد في ضبط الحريات والصحافة. وعلى الرغم من احتجاجات العام 2011، لم تتوسع هوامش الحريات، وظلَّ يمسك البلاد بقبضة أمنية، ولكنها ناعمة قياساً بأنظمةٍ عربية أخرى! واعتمد في ذلك على القبائل، وهذا ساعده في ضبط طموح المعارضين، وعدم تشكل تنظيماتٍ إسلامية في بلده، وعدا ذلك تشكل الأغلبية الإباضية سبباً في رفض أغلبية الشعب الميل السلفي وتسييس المذاهب الدينية.
لا يمكن تجاهل أهمية المذهب الإباضي الذي يدين له السلطان وأغلبية شعبه، حيث هو ليس سنّياً كما السعودية ولا شيعياً كإيران، وسلطنته تقوم بين هاتين الدولتين. وبالتالي، لا بد من الحيادية وعدم الانحياز، وقراءة السياسة الإقليمية والدولية جيداً قبل اتخاذ أي قرار يخص الإقليم والعالم. دعمته بريطانيا، وظلّت علاقته بها جيدة، وما تزال، وأقام علاقات قوية مع أميركا كذلك، ولم ينحز إلى أية أحلاف أو حروب في المنطقة، ولهذا تعتبر السلطنة مكاناً ممتازاً للطبخات السياسية السريّة التي شملت دول المنطقة، لا سيما بين أميركا وإيران والاتفاق النووي 2013، وبين الحوثيين والسلطة الشرعية، وهي لم تقاطع مصر في أثناء كامب ديفيد 1978، وأقامت علاقاتٍ محدودة مع إسرائيل، وزارها نتنياهو 2018. وعلى الرغم من ذلك كله، ظلّت علاقتها ممتازة بإيران وضعيفة مع السعودية، ويعلق هذا الضعف بما ذكرت أعلاه، ولأن السعودية اعتبرتها ممرّاً للسلاح إلى الحوثيين، وكذلك بسبب رفضها توحيد العملة مع دول الخليج، ووضعها شروطا كثيرة في إطار علاقات هذه الدول ببعضها، ورفضت المشاركة بحصار قطر كذلك. وعلى الرغم من ذلك، هي دولة مؤسّسة في مجلس التعاون الخليجي.
شح مواردها، وكثرة مشكلاتها، وضعا قيوداً كثيرةً على النهضة التي بدأت 1970، ولكن التعقيدات الأكبر كانت من نصيب الشعب العُماني، وليس النظام الحاكم الذي يعاني بدوره من الفساد كما بقية الدول العربية. احتكار السلطات بيد السلطان، وغياب آليات للرقابة وسلطة قضائية مستقلة دفعا الشعب إلى مطالبات منه بتوسيع الحريات، بدءاً من العام 2005، وتصاعدت الاحتجاجات في 2011 كما جاء أعلاه.
رؤية 2014
أطلقت عُمان بين 2013 و2020 "مشروع رؤية مستقبلية لعام 2040"، وكانت نتاج
مشاركة فعاليات عديدة، وبقيادة السلطان الجديد الحالي، هيثم بن طارق. تتضمن الرؤية جوانب عديدة، وتشمل تقريباً كل قطاعات الحياة، اقتصاداً وتعليماً وتشريعات ورقابة وتعزيز قيم المواطنة والهوية الوطنية وسواه. وبالتالي، هناك مشكلات كبرى رافقت نهضة السلطان قابوس، وتقف أمام السلطان الجديد.
استطاع السلطان المؤسس أن يضبط الجيش ويبعد العائلة الحاكمة عنه، ولكن السلطان الجديد ليس عسكريّاً، واختيار السلطان قابوس له حاكماً لا يعني أن العائلة التي وافقت على جعله سلطاناً، ومن دون أيّة تعقيدات، أنّها غير طامعةٍ بتوسيع أحلامها وسلطاتها إلى الجيش، ومؤسسات كثيرة في الدولة كما حال دول الخليج مثلاً. السلطان الجديد أمام مهمات كثيرة إذاً، وتتناول كل شؤون الحياة، فهل في مقدوره، وقد ترأس وزارات وسلطات كثيرة من قبل، أن يحافظ على سياسات عُمان الخارجية، ويقدّم حلولاً للمشكلات الداخلية المستعصية. قد يكون حظّه سيئاً، حيث إن كميات النفط والغاز ليست كبيرة، وقابلة للنفاد خلال عقود قليلة، كما تذكر بعض الدراسات.
تُوضح رؤية 2040 أن قضايا "الإنسان والمجتمع، والاقتصاد والتنمية، وإصلاح مؤسسات السلطنة" كلها تتطلب تغييرات كبرى. إذاً، وإضافة إلى ما ذكرنا أعلاه، هل سيتمكّن السلطان الجديد من تحديث دولته، وجعلها عصريّة بالفعل؟ فرض الاقتراض من البنك الذي تعتمد عليه السلطنة سياسات تقشف، ما أدّى إلى أعلى نسبة بطالة بين الشباب، 49% بين الذكور وأكثر من 70% بين الإناث، ولمّا أغلبية العُمانيين شباباً، فإن هناك مشكلة بطالة كبيرة، وتتطلب حلاً سريعاً. وتنص الرؤية على تنويع في الاقتصاد، وهذا خيار اعتمدته بقية دول الخليج وقضية مطروحة عالمياً كذلك. المهم أن ذلك التنويع صحيح، وهناك قطاعاتٌ يمكن الاستثمار فيها، كالسياحة والصيد والمعادن واستثمار الموانئ واقتصاد المعرفة والنقل وسواه، وهناك استثماراتٌ صينية كبيرة وفدت وتفد إلى السلطنة ضمن مشروع "الحزام الاقتصادي لطريق الحرير"، وأجنبية، ولكن هذا التوجه إلى الاقتصاد لم ينقذ بلدانا كثيرة، والسبب يكمن في ضعف التصنيع المركزي، فعُمان ليست ألمانيا؟ بل وليست روسيا مثلاً، والأمر ذاته يخص تونس والسودان ولبنان، وبالتالي لن يتمكّن السلطان من تطوير الاقتصاد عبر تنويعه، وحتى تنويعه يتطلب استقطاب رؤوس أموالٍ ستعمل بدورها من أجل زيادة ثرواتها، وليس النهوض بعُمان؛ هذه قضية معقدة للغاية إذاً.
قضية الجيش، حيث تعدُّ ميزانيته كبيرة وأعلى من ميزانيات جيوش دول كثيرة، والسلطنة تخوض تقريباً سباق تسلحٍ مع بقية دول الخليج. والسؤال: كيف سيقبل الجيش، والسلطان الجديد ليس عسكرياً، التراجع عن نسبٍ من حصّته لصالح بقية الوزارات؟ السعودية والإمارات تهدّدان عُمان عبر محافظة المهرة اليمنية، وهي حدودية، وتسعيان إلى الاستيلاء على جزر وموانئ كثيرة فيها، ومحاولة الاستغناء عن مضيق هرمز ذاته. وهنا مشكلة كبيرة. وإذا كانت إيران لا تهدّد عُمان، فهذا متعلق بالحصار الشديد المُطبق عليها، وحاجتها إلى متنفسٍ للمفاوضات مع العالم، ولأن السلطنة ترفض الخضوع للسعودية، وليست لديها مشكلة في هيمنة إيران على العراق. الحرب تدور في اليمن، وعُمان مهدّدة، ومتّهمة بتمرير السلاح إلى الحوثيين، وبالتالي كيف ستتمكّن عُمان من الاستمرار في تفادي اندلاع مشكلاتٍ كبرى، وربما حرب أيضاً. عُمان تخشى الدولتين، وتحديداً أطماع الإمارات بمناطق كثيرة من عُمان، وقد كشفت السلطنة خلية تجسّس إماراتية في العام 2011، وأذاعت ذلك عبر إعلامها الرسمي، وهذا كان بمثابة تهديدٍ للإمارات بأنّها تستهدف نظام الحكم والجيش في عُمان. للحساسية هذه أسباب قديمة وجديدة، وهي قضية تتطلّب حلاً، ولكن الحرب في اليمن والخلافات بين إيران والسعودية تمنع الحل، فكيف سيتم تسكين المشكلات التي لا حل لها؟
تفترض "رؤية 2040" الوصول إلى دولة حديثة بالفعل، أي أن يصبح نظامها ديموراطياً، واقتصادها صناعياً ومتنوعاً، ومجتمعها ينافس شعوب العالم بالمعرفة والعلم والديمقراطية، والبطالة فيها قليلة. عُمان مثقلة بإرثٍ كبير، ولهذا فهي بالكاد أجرت أوّل انتخابات بلدية في 2012، وأجرت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي انتخابات مجلس الشورى الجديد، وكانت بالتصويت الإلكتروني، ووسّعت من صلاحيات المجلس، وسمحت للقضاء باستقلالية أكبر. واقتصاد السلطنة يعاني كثيراً. عُمان هذه، وعلى الرغم من تمريرها انتقال الحكم إلى السلطان هيثم بن طارق بسلاسة، فهي تنتظر منه الكثير، وتكتنفها عقبات كثيرة.
عقبات أمام السلطان الجديد
عُمان معنية بتحوّلٍ ديمقراطيٍّ كبير، وإزالة القيود أمام الصحافة والحريات وتشكيل الأحزاب،
وحينها قد تتشكل الدولة الوطنية بحق. هناك كلام كثير عن تجذّر الوطنية وبعضهم يسمّيها قومية عُمانية، ولكن ذلك ليس سليماً؛ فالسلطنة تنعدم فيها الحريات، ويتحكّم فيها الأمن، وشخصٌ واحدٌ يحوز كل السلطات الأساسية. وبالتالي، يصعب تمرير حكاية الوطنية أو القومية العمانية. مجتمع عُمان يشبه النظام الذي يحكمه، وأقصد أنَّ القبلية والمذاهب الدينية والتنوع العرقي، والخلاف بين الحضريين والبدو وسواه، بيئات فاعلة، ومن الخطأ تقزيمها وعدم الالتفات إليها.
حاول السلطان قابوس تطوير المجتمع العُماني، وحَدَّثَ كثيرا من جوانب الدولة، ولكن مشكلات كثيرة رافقت حكمه كما أوضحت السطور أعلاه، وكذلك لم تتشكل وطنية وقومية عمانية. الأخيرة لا تُبنى خارج التحوّل الديمقراطي، وخارج دولةٍ تستند إلى المواطنة وحقوق الإنسان؛ بذلك يخرج الأفراد من بيئاتهم الجماعية "قبيلة، أسرة، مذهب، إثنية، التعصب بكل أشكاله"، ويُعرِّفون أنفسهم بالكفاءة والعقل وحقوق المواطن. ذلك كله ليس متوفراً لا في عُمان ولا في الدول العربية. أن تتجنّب عُمان المشكلات الطائفية والحروب القبلية ومشكلات السلطة هذا عظيم، ولكن ذلك لا يعني أنه لم يعد خطراً يتهدّدها؛ أن يكون المذهب الإباضي مرجعيةً، فهو ليس سبباً لعدم تسييس هذا المذهب وسواه. في كل الأحوال، ما يقي الإمارات وقطر والكويت بالتحديد من المشكلات الكبرى، حيث أن السعودية غارقة فيها، هو قوة اقتصادها الريعي، وبالتالي يسهل لتلك الأنظمة الحكم بسهولة، وهذا غير متوفر في عُمان؛ فهي تعاني مشكلاتٍ كثيرة في الاقتصاد والاجتماع وحتى السياسة. الاكتفاء بالقول إن السلطان هيثم سيستمر بالسياسة القديمة ذاتها لا ينجيه من المشكلات. على الرغم من ذلك كله، هو أشرف على رؤية 2040، وهو يعرف مشكلات بلاده جيداً، وبالتالي إمّا أن يسير برؤيته تلك، وبما يخدم قضايا مجتمعه، ويوازن بين فئاته المتعدّدة (فئات الحكم وفئات المجتمع) وسياسة الحياد القديمة، وينهض بعُمان مجدّداً، أو أن الاحتجاجات التي اندلعت في 2017، ستتجدّد وقد تتضخم، وربما يواجه مشكلاتٍ من داخل الجيش والعائلة الحاكمة، وربما تضاعف السعودية والإمارات تآمرهما على السلطنة.
إذاً، سلطنة عُمان الوادعة، الساكنة، التي تجنّبت الحروب الأهلية بعد حرب الستينيات، قد تقع في المشكلات، لا سيما أن احتجاجاتٍ قد حدثت فيها كما ذكرنا؛ النظام وحده المسؤول عن ذلك، كما حال بقية الأنظمة، فهل يتمكّن هيثم بن طارق من أن يكون قابوس بن سعيد من جديد، ويضيف عليه، ويحوّل سلطنة عمان ديمقراطياً، وينهض بها مجدًداً، ويغيّر من شكل الحكم إلى ملكية دستورية مثلاً؟
وضع كامل السلطات بين يديه، ولكنه كان عاجزاً بشكلٍ كليٍّ؛ فالبلاد هشّة، وليس فيها أية
لا يمكن تجاهل أهمية المذهب الإباضي الذي يدين له السلطان وأغلبية شعبه، حيث هو ليس سنّياً كما السعودية ولا شيعياً كإيران، وسلطنته تقوم بين هاتين الدولتين. وبالتالي، لا بد من الحيادية وعدم الانحياز، وقراءة السياسة الإقليمية والدولية جيداً قبل اتخاذ أي قرار يخص الإقليم والعالم. دعمته بريطانيا، وظلّت علاقته بها جيدة، وما تزال، وأقام علاقات قوية مع أميركا كذلك، ولم ينحز إلى أية أحلاف أو حروب في المنطقة، ولهذا تعتبر السلطنة مكاناً ممتازاً للطبخات السياسية السريّة التي شملت دول المنطقة، لا سيما بين أميركا وإيران والاتفاق النووي 2013، وبين الحوثيين والسلطة الشرعية، وهي لم تقاطع مصر في أثناء كامب ديفيد 1978، وأقامت علاقاتٍ محدودة مع إسرائيل، وزارها نتنياهو 2018. وعلى الرغم من ذلك كله، ظلّت علاقتها ممتازة بإيران وضعيفة مع السعودية، ويعلق هذا الضعف بما ذكرت أعلاه، ولأن السعودية اعتبرتها ممرّاً للسلاح إلى الحوثيين، وكذلك بسبب رفضها توحيد العملة مع دول الخليج، ووضعها شروطا كثيرة في إطار علاقات هذه الدول ببعضها، ورفضت المشاركة بحصار قطر كذلك. وعلى الرغم من ذلك، هي دولة مؤسّسة في مجلس التعاون الخليجي.
شح مواردها، وكثرة مشكلاتها، وضعا قيوداً كثيرةً على النهضة التي بدأت 1970، ولكن التعقيدات الأكبر كانت من نصيب الشعب العُماني، وليس النظام الحاكم الذي يعاني بدوره من الفساد كما بقية الدول العربية. احتكار السلطات بيد السلطان، وغياب آليات للرقابة وسلطة قضائية مستقلة دفعا الشعب إلى مطالبات منه بتوسيع الحريات، بدءاً من العام 2005، وتصاعدت الاحتجاجات في 2011 كما جاء أعلاه.
رؤية 2014
أطلقت عُمان بين 2013 و2020 "مشروع رؤية مستقبلية لعام 2040"، وكانت نتاج
استطاع السلطان المؤسس أن يضبط الجيش ويبعد العائلة الحاكمة عنه، ولكن السلطان الجديد ليس عسكريّاً، واختيار السلطان قابوس له حاكماً لا يعني أن العائلة التي وافقت على جعله سلطاناً، ومن دون أيّة تعقيدات، أنّها غير طامعةٍ بتوسيع أحلامها وسلطاتها إلى الجيش، ومؤسسات كثيرة في الدولة كما حال دول الخليج مثلاً. السلطان الجديد أمام مهمات كثيرة إذاً، وتتناول كل شؤون الحياة، فهل في مقدوره، وقد ترأس وزارات وسلطات كثيرة من قبل، أن يحافظ على سياسات عُمان الخارجية، ويقدّم حلولاً للمشكلات الداخلية المستعصية. قد يكون حظّه سيئاً، حيث إن كميات النفط والغاز ليست كبيرة، وقابلة للنفاد خلال عقود قليلة، كما تذكر بعض الدراسات.
تُوضح رؤية 2040 أن قضايا "الإنسان والمجتمع، والاقتصاد والتنمية، وإصلاح مؤسسات السلطنة" كلها تتطلب تغييرات كبرى. إذاً، وإضافة إلى ما ذكرنا أعلاه، هل سيتمكّن السلطان الجديد من تحديث دولته، وجعلها عصريّة بالفعل؟ فرض الاقتراض من البنك الذي تعتمد عليه السلطنة سياسات تقشف، ما أدّى إلى أعلى نسبة بطالة بين الشباب، 49% بين الذكور وأكثر من 70% بين الإناث، ولمّا أغلبية العُمانيين شباباً، فإن هناك مشكلة بطالة كبيرة، وتتطلب حلاً سريعاً. وتنص الرؤية على تنويع في الاقتصاد، وهذا خيار اعتمدته بقية دول الخليج وقضية مطروحة عالمياً كذلك. المهم أن ذلك التنويع صحيح، وهناك قطاعاتٌ يمكن الاستثمار فيها، كالسياحة والصيد والمعادن واستثمار الموانئ واقتصاد المعرفة والنقل وسواه، وهناك استثماراتٌ صينية كبيرة وفدت وتفد إلى السلطنة ضمن مشروع "الحزام الاقتصادي لطريق الحرير"، وأجنبية، ولكن هذا التوجه إلى الاقتصاد لم ينقذ بلدانا كثيرة، والسبب يكمن في ضعف التصنيع المركزي، فعُمان ليست ألمانيا؟ بل وليست روسيا مثلاً، والأمر ذاته يخص تونس والسودان ولبنان، وبالتالي لن يتمكّن السلطان من تطوير الاقتصاد عبر تنويعه، وحتى تنويعه يتطلب استقطاب رؤوس أموالٍ ستعمل بدورها من أجل زيادة ثرواتها، وليس النهوض بعُمان؛ هذه قضية معقدة للغاية إذاً.
قضية الجيش، حيث تعدُّ ميزانيته كبيرة وأعلى من ميزانيات جيوش دول كثيرة، والسلطنة تخوض تقريباً سباق تسلحٍ مع بقية دول الخليج. والسؤال: كيف سيقبل الجيش، والسلطان الجديد ليس عسكرياً، التراجع عن نسبٍ من حصّته لصالح بقية الوزارات؟ السعودية والإمارات تهدّدان عُمان عبر محافظة المهرة اليمنية، وهي حدودية، وتسعيان إلى الاستيلاء على جزر وموانئ كثيرة فيها، ومحاولة الاستغناء عن مضيق هرمز ذاته. وهنا مشكلة كبيرة. وإذا كانت إيران لا تهدّد عُمان، فهذا متعلق بالحصار الشديد المُطبق عليها، وحاجتها إلى متنفسٍ للمفاوضات مع العالم، ولأن السلطنة ترفض الخضوع للسعودية، وليست لديها مشكلة في هيمنة إيران على العراق. الحرب تدور في اليمن، وعُمان مهدّدة، ومتّهمة بتمرير السلاح إلى الحوثيين، وبالتالي كيف ستتمكّن عُمان من الاستمرار في تفادي اندلاع مشكلاتٍ كبرى، وربما حرب أيضاً. عُمان تخشى الدولتين، وتحديداً أطماع الإمارات بمناطق كثيرة من عُمان، وقد كشفت السلطنة خلية تجسّس إماراتية في العام 2011، وأذاعت ذلك عبر إعلامها الرسمي، وهذا كان بمثابة تهديدٍ للإمارات بأنّها تستهدف نظام الحكم والجيش في عُمان. للحساسية هذه أسباب قديمة وجديدة، وهي قضية تتطلّب حلاً، ولكن الحرب في اليمن والخلافات بين إيران والسعودية تمنع الحل، فكيف سيتم تسكين المشكلات التي لا حل لها؟
تفترض "رؤية 2040" الوصول إلى دولة حديثة بالفعل، أي أن يصبح نظامها ديموراطياً، واقتصادها صناعياً ومتنوعاً، ومجتمعها ينافس شعوب العالم بالمعرفة والعلم والديمقراطية، والبطالة فيها قليلة. عُمان مثقلة بإرثٍ كبير، ولهذا فهي بالكاد أجرت أوّل انتخابات بلدية في 2012، وأجرت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي انتخابات مجلس الشورى الجديد، وكانت بالتصويت الإلكتروني، ووسّعت من صلاحيات المجلس، وسمحت للقضاء باستقلالية أكبر. واقتصاد السلطنة يعاني كثيراً. عُمان هذه، وعلى الرغم من تمريرها انتقال الحكم إلى السلطان هيثم بن طارق بسلاسة، فهي تنتظر منه الكثير، وتكتنفها عقبات كثيرة.
عقبات أمام السلطان الجديد
عُمان معنية بتحوّلٍ ديمقراطيٍّ كبير، وإزالة القيود أمام الصحافة والحريات وتشكيل الأحزاب،
حاول السلطان قابوس تطوير المجتمع العُماني، وحَدَّثَ كثيرا من جوانب الدولة، ولكن مشكلات كثيرة رافقت حكمه كما أوضحت السطور أعلاه، وكذلك لم تتشكل وطنية وقومية عمانية. الأخيرة لا تُبنى خارج التحوّل الديمقراطي، وخارج دولةٍ تستند إلى المواطنة وحقوق الإنسان؛ بذلك يخرج الأفراد من بيئاتهم الجماعية "قبيلة، أسرة، مذهب، إثنية، التعصب بكل أشكاله"، ويُعرِّفون أنفسهم بالكفاءة والعقل وحقوق المواطن. ذلك كله ليس متوفراً لا في عُمان ولا في الدول العربية. أن تتجنّب عُمان المشكلات الطائفية والحروب القبلية ومشكلات السلطة هذا عظيم، ولكن ذلك لا يعني أنه لم يعد خطراً يتهدّدها؛ أن يكون المذهب الإباضي مرجعيةً، فهو ليس سبباً لعدم تسييس هذا المذهب وسواه. في كل الأحوال، ما يقي الإمارات وقطر والكويت بالتحديد من المشكلات الكبرى، حيث أن السعودية غارقة فيها، هو قوة اقتصادها الريعي، وبالتالي يسهل لتلك الأنظمة الحكم بسهولة، وهذا غير متوفر في عُمان؛ فهي تعاني مشكلاتٍ كثيرة في الاقتصاد والاجتماع وحتى السياسة. الاكتفاء بالقول إن السلطان هيثم سيستمر بالسياسة القديمة ذاتها لا ينجيه من المشكلات. على الرغم من ذلك كله، هو أشرف على رؤية 2040، وهو يعرف مشكلات بلاده جيداً، وبالتالي إمّا أن يسير برؤيته تلك، وبما يخدم قضايا مجتمعه، ويوازن بين فئاته المتعدّدة (فئات الحكم وفئات المجتمع) وسياسة الحياد القديمة، وينهض بعُمان مجدّداً، أو أن الاحتجاجات التي اندلعت في 2017، ستتجدّد وقد تتضخم، وربما يواجه مشكلاتٍ من داخل الجيش والعائلة الحاكمة، وربما تضاعف السعودية والإمارات تآمرهما على السلطنة.
إذاً، سلطنة عُمان الوادعة، الساكنة، التي تجنّبت الحروب الأهلية بعد حرب الستينيات، قد تقع في المشكلات، لا سيما أن احتجاجاتٍ قد حدثت فيها كما ذكرنا؛ النظام وحده المسؤول عن ذلك، كما حال بقية الأنظمة، فهل يتمكّن هيثم بن طارق من أن يكون قابوس بن سعيد من جديد، ويضيف عليه، ويحوّل سلطنة عمان ديمقراطياً، وينهض بها مجدًداً، ويغيّر من شكل الحكم إلى ملكية دستورية مثلاً؟