ما الذي يبقى من مدرسةٍ فنية بعد مرور مئة عام على تأسيسها؟ سؤال ظلَّ طرحُه يتواصل طوال العام الماضي حول إحدى أبرز المدارس الفنية في العصر الحديث - بمناسبة مئوية تأسيسها - ألا وهي مدرسة "باوهاوس" في ألمانيا.
يُترجَم هذا الاسم، الذي أصبح بمثابة مصطلح يتكوَّن من كلمتين ألمانيتين، إلى "بيت العمارة"، في إشارة مباشرة إلى الفن المعماري، إلّا أن مفهوم العمارة هنا يتّخذ أبعاداً تجعل من كل فن جهداً معمارياً، يختصره نمطٌ معماري حديث ولّد، بجماليات جديدة، أشكالاً معمارية لا حصر لها. ومع هذا، لم تكن "الباوهاوس" مجرّد أسلوب معماري بل كانت، وهذا هو الأهم الذي جعلها باقية ومتقدّمة حتى على زمننا الراهن، طريقة تفكير جديدة. وطريقة التفكير هذه ما زالت - منذ أن ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى - تقف وراء الأشكال والأنماط الحداثية في فنون العصر الراهن.
تأسّست هذه المدرسة، ذات التأثير المتواصل حتى اليوم، عام 1919 في مدينة "فايمار" الألمانية على يد معماري بروسي يُدعى والتر غروبيوس، ولم يكن الهدف منها تعليم فنّ العمارة بقدر ما كان الهدف أن تكون نوعاً من مدرسة فنّ، ولكنه فنّ مختلف.
التلاميذ في هذه المدرسة، على خلاف تلاميذ مدارس الفن التقليدية، لم يكونوا يُدرَّبون على طريقة رسم الأجساد العارية أو مشاهد الطبيعة الصامتة، بل يتعلّمون النظر إلى العالم من حولهم بطريقة مختلفة. لم يكن في نية غروبيوس أن يبني بيوتاً بطراز حديث فقط، بل وأن يعمل على تربية سلالة جديدة من الفنّانين يستطيعون استخدام أيديهم في تشكيل وصناعة أي شيء.
في ذلك الزمن، كانت مدارس الفن تقليدية محافظة ونخبوبة، والكلّيات الصناعية كئيبة وتقليدية، وما قام به غروبيوس هو إزالة الجدران الفاصلة بين الفن الجميل والفنون التطبيقية الحِرفية، منطلقاً في ذلك من مقولة شهيرة له: "لا يوجد اختلاف جوهري بين الفنّان والصانع الحِرَفي". على هذا الأساس تعلَّم التلاميذ في هذه المدرسة صناعة الخزف والطباعة وتجليد الكتب والنجارة، ودرسوا أساليب الإعلان وطباعة الحروف، وكانوا في كلّ هذا يعودون إلى الأشكال الهندسية الأساسية (المثلّث والدائرة والمربع)، وإلى الألوان الأساسية (الأحمر والأصفر والأزرق)، وبدأوا ينظرون إلى العالم من حولهم كأنهم يرونه لأوّل مرّة مثلما هي رؤية الفنان.
وكان لفنّانين بارزين من أمثال الروسي كاندنسكي، والسويسري بول كلي، الأستاذَين في هذه المدرسة، تأثير بالغ في توجيه الأنظار نحو هذا الجانب الذي كانت تجهله الثقافة الفنية في الغرب، وتمكّن هذان من التمرُّس فيه تطبيقاً وتنظيراً، بتأثير دراستهما للفنون الشرقية، وخاصّةً فنّ الزخرفة والخطّ العربيَّين، في الربع الأول من القرن العشرين.
كان كل هذا صادراً عن وعي إنسان يعرف غايته والطريق إليها، وليس أدل على ذلك من البيان الذي أصدره المؤسّس، ووضع فيه إطاراً واضحاً لهذه النظرة الجديدة أو طريقة التفكير الجديدة في عام 1919.
يبدأ البيان بالقول: "البناء الكامل هو هدف الفنون البصرية النهائي، تلك الفنون التي كانت أكثر وظائفها نبلاً ذات يوم تزيين المباني، ولكن هذه الفنون اليوم موجودة في حالة عزلة، ولا يمكن إنقاذها كلّها من عزلتها إلّا بوعي وتضافر جهود كلّ الحرفيّين. ويجب أن يدرك المعماريّون والرسّامون والنحّاتون مجدَّداً السمات التكوينية للمبنى بوصفه كينونة. عندئذ فقط يتشرّب عملهم بالروح المعمارية التي فقدها حين أصبح (فن صالات). مدارس الفنّ القديمة لم تتمكّن من تحقيق هذه الوحدة، وقبل كل شيء، كيف يمكنها هذا ما دام الفن لا يمكن تعليمه؟ يجب أن يتمّ الاشتغال على الفنّ مجدَّداً في المشغل".
ويمضي البيان إلى القول: "يجب أن يصبح عالم المصمّمين والمزوّقين هذا، أولئك الذين يرسمون ويلوّنون فقط، عالم بنّائين مجدَّداً.. وعلينا، معماريّين ونحّاتين ورسّامين، أن نلتفت إلى الأعمال الحرفية. الفن ليس مهنة. ولا يوجد اختلاف جوهري بين الحرفي والفنّان؛ الفنّان حرفي مجيد. وفي لحظات إلهام نادرة، لحظات خارج سيطرته، قد تجعل النعمة السماوية عمله يزهر ويثمر فنّاً، ولكن براعته في حرفته أساسية بالنسبة إلى كلّ فنّان". وفي الختام، يدعو البيان إلى ابتكار طائفة فنّانين/ حرفيّين جديدة، بلا تمييز فئوي يقيم فاصلاً متعجرفاً بين الحرفي والفنان، ويضيف: "دعونا نتصوّر معاً ونبدع مبنى المستقبل الجديد الذي سيحتضن المعمار والنحت والتصوير والرسم في وحدة واحدة، مبنى سيرتفع نحو السماء على أيدي ملايين العاملين ذات يوم مثل رمز بلوري لإيمان جديد".
حسب المؤسّس غروبيوس، الذي أرسى مبادئ هذه المدرسة منذ البداية، "أيّ موضوع أو شيء تحدّده طبيعته" وعلى المرء، من أجل جعل تصميمه يؤدّي وظيفته بشكل مناسب، أن يدرس أوّلاً طبيعة موضوعه، أن يعتني بوظيفته بطريقة عملية. ولهذا، بدلاً من جلوس التلاميذ في حجرات الدراسة المغلقة والإصغاء إلى المحاضرين، كانوا يُؤخذون إلى مشاغل، أو ورش حسب الترجمة الشائعة لكلمة "workshops"، يتعلّمون فيها وهم يعملون. وكانت النتائج غير عادية. أنتجت "الباوهاوس" عدداً هائلاً لا يُصدَّق من المصنوعات والمشغولات الفنية، بدءاً من المصابيح وانتهاءً بمقاعد لاعبي الشطرنج، وكلّها أعمال تتميّز بطرائق بنائها ووظائفها. كانت بسيطة ومفيدة، وجميلة. وفي عصر طغت عليه نزعة التزويق والبهرجة كان مظهر خطوط هذه المصنوعات الانسيابي ثورياً وفاتحة عصر تصميم وتشكيل جديدَين.
وتأكّد هذا بإعلان المؤسس أنّ "مشاغل الباوهاوس مختبرات تعتني بصناعة نماذج أولية تناسب الإنتاج واسع النطاق، ويجري فيها إدخال تحسينات عليها دائماً... وفي هذه المختبرات تُدرّب الباوهاوس وتعلّم عاملاً من نمط جديد على حرفة يدوية وصناعة تجعله متمكّناً من التقانة ومن صياغة الأشكال على حد سواء".
هذه الرؤيا لم تلق إجماعاً. وفي الانتخابات المحلية في عام 1924، هُزم الليبراليون الذين ساندوا "الباوهاوس"، وأَوقفت الحكومة المحافظة الجديدة تمويل المدرسة. وفي نيسان/ إبريل 1925، تماماً بعد ستّ سنوات مرّت على افتتاحها، أجبرت "الباوهاوس" على إغلاق أبوابها. ولكن سمعتها كمدرسة طرائق تفكير جديدة وحداثية كانت قد انتشرت إلى مدن أخرى، فأعطتها مدينة دساو مقرّاً بديلاً، وكلّفت حكومتها المحلية غروبيوس بتصميم مبنىً جديد جاء فريداً من نوعه، وفي هذه المدينة نضجت تجربة "الباوهاوس"، وبدأ المؤسّس بتعليم فن العمارة، إلّا أنه أضاف أنواعاً أُخرى من الفنون، فأقيمت مشاغل متخصّصة بالنسيج والمصنوعات المعدنية والتصوير الفوتوغرافي وتصميم منصّات المسارح.
في عام 1928 تخلّى غروبيوس عن إدارة المدرسة ليستأنف مهنته كمهندس معماري، ولكنها في ظلّ مديرها الجديد هانس ميير أصبحت أقوى وهي تنتقل من مرحلة إلى أُخرى، وأصبح ورق جدران "الباوهاوس" أكثر منتجات المدرسة مبيعاً. وأخيراً أصبحت ها هنا مدرسة يُمكنها أن تشقّ طريقها بإمكانياتها الذاتية. ولكن السياسة الألمانية كانت تمرّ بمرحلة استقطاب، وكان دعم النازية يتنامى. وفي عام 1930 أبعد مجلس مدينة دساو مديرها عنها بحجة "ميوله الشيوعية"، وفاز النازيون في عام 1931 في الانتخابات المحلية وهم يحملون وعداً بإغلاق "الباوهاوس" التي أطلقوا عليها لقب "بلشفية ثقافية"، ومع أنّ المبنى الذي صمّمه غروبيوس ظلّ قائماً، إلّا أنَّ الطلبة والأساتذة أُجبروا على الفرار، ووجدوا لهم مقرّاً في مصنع قديم في برلين يديره مديرها المعماري ميس فاندر روي، ولكن هتلر وصل إلى السلطة، ما اضطر مديرها إلى إغلاقها.
لماذا شعر النازيون بأن الباوهاوس تمثّل تهديداً لهم؟ عن هذا السؤال يجيب الصحافي البريطاني وليام كوك بالقول: "لقد أرعبتهم مدرسة تصنع أثاثاً وأدوات مطبخ، لأنها تمثّل نظرة إلى العالم ناقضت نظرة الحزب النازي. كانت النازية ترى في مبادئ المدرسة الأممية هذه، المنفتحة والطليعية على صعيد الفكر، تضييعاً للهوية الألمانية، وحين توضع أخلاقياتها الأممية بجوار خيال هتلر العنصري الجامح يبدو هذا الأخير أضحوكة". ويضيف: "ولكن اضطهاد النازيّين لهذه المدرسة ومبادئها هو الذي ضمن، من حيث لا يقصدون، بقاءها وحفظ لها مكانتها، فلو احتضنت ألمانيا النازية هذه المدرسة لكان مصيرها أن تنتهي معها".
بعد إغلاق "الباوهاوس" وخروج أساتذتها إلى دول أخرى وتفرّقهم، انتشرت فلسفتها. وارتحل والتر غروبيوس وميس فاندر روي إلى الولايات المتّحدة، وهناك انضمّ إليهما أساتذة آخرون. وفي عام 1937 أنشأوا "الباوهاوس الجديدة" في شيكاغو. وبعد كل هذه السنوات، لا يستطيع من يشاهد أعمالها المعروضة في المتاحف والمجموعات الخاصة أن يُدرك أنها تنتمي إلى الماضي البعيد إلّا بعد أن يقرأ ما كُتب على جنباتها أو تحتها. كان أسلوب هذه المدرسة، كما قال أحدهم، يتجاوز ويسبق الزمن الذي وُلد فيه، بل ويتقدّم عصرنا الراهن.